أخيراً رحل أمير التقى والزهد، وأناخ المطايا، واصطفى ركبه العزيز الودود، رحل الوجه النير، الذي عطرته الآيات فهو الحميد. رحل صاحب التقى والعلم والفضل، رحل من كانت يده بالعطاء سخية ونفسه بالفضل ندية، رحل من أعرض عن الفانية، طالبا للباقية، رحل وكلنا والله راحل. فاللهم اغفر له وارحمه، واجعل الفردوس الأعلى منزله، وأجزه الغرفة بما صبر، يا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
لقد طويت صفحة غراء ناصعة من صفحات الخير. وكسفت شمس من شموس العطاء، في هذه البلاد المعطاء المباركة النيرة بموت أمير التقى والزهد وصاحب الفضل والكرم والجود.
ولقد أثر في وفي غيري رحيل صاحب السمو الأمير الزاهد المفضال عبد الله بن فيصل بن فرحان آل سعود الذي كان أبا رحيما، وسندا معينا، وحصنا حصينا؛ لطلبة العلم والدعاة والصادقين.
وماذا عساي أن أقول وأكتب عنه سوى أن أذكر بعض ما انقدح في بالي من كريم خصاله، وجميل خلاله فمن لطيف ذلك: زهده في هذه الحياة مع توافر أسبابها وحصول مقاصدها وعلو رتبته وكبير منزلته وعظيم مكانته، فلم يركض وراءها بل عاش في مزرعته (مشيرفة) ما بقي له من العمر بعيدا كل البعد عن المباهج وزينة الحياة تاليا للقرآن، أو سامعاً للذكر، أو محباً للخير أو مكرماً للإخوان والدعاة.
ومن جميل خلاله وعظيم خصاله: كرمه الفياض، فهو بحر زاخر يده بالعطاء والسخاء ممتدة، زرته لأول مرة مع بعض الصالحين فأكرمني إكراما منقطع النظير. حباني من ماله الخاص ما سد به الخلة، وأذهب به الفاقة - وكنت وقتها علم الله - أمر بظروف عسيرة، وأكابد أحوالا مريرة وقال لي: هذا قليل لا يفي بحقك، هذا معي، ومع غيري أضعاف ذلك من الدعاة الصادقين. وطلبة العلم الصالحين. ومواقفه في ذلك تذكر فتشكر، ولعل غيري يصرح بمثل ما صرحت به تخليدا لذكراه، ونشراً لفضله، فإن الذكر للإنسان عمر ثان.
ومنها: حبه للعلماء الربانيين محبة خالصة لله وفي الله، كان - رحمه الله - كثير السؤال عنهم، حالا وصحة وعلما، كثير الدعاء لهم، يحب أن يسمع عنهم الأخبار السارة، ويفرح جدا إذا أخبر بصدور مؤلف جديد لهم في عالم الكتب ويطلب من مدير أعماله اقتناء الكتاب المذكور، حتى يقرأ فيه ولقد حدثني - رحمه الله - أنه قد زاره في مزرعته هذه (مشيرفة) جمع من أهل العلم والفضل أمثال سماحة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وسماحة الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني وسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمهم الله جميعاً - وكان يقول لي: كلهم قد قصروا الصلاة ها هنا بعد أن قدمتهم، ووالله لقد رأيت أسارير وجهه مشرقة طافحة بالسرور، مليئة بالحبور، أثناء زيارة الشيخ ابن عثيمين له.
وكان بعض أهل العلم والفضل يزورنه أسبوعياً كل جمعة بعد صلاة العصر للالتقاء به، وكان يفرح بذلك جدا أمثال الشيخ المجاهد عبد الرحمن بن عبد الله آل فريان - رحمه الله - والشيخ فهد بن حمين، وغيرهم من طلبة العلم، وكانت تربطه صلة حميمية بالعالم الزاهد الشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد - رحمه الله - ومحبة وثيقة وكان أميرنا الراحل يكثر من ذكر صفاته الحميدة ونعوته الرشيدة.
ومن صفاته النيرة - رحمه الله - طبعه للكتب السلفية النافعة ككتاب (دعوة الشيخ محمد بن بعد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي) للشيخ صالح بن عبد الله العبود مدير الجامعة الإسلامية وكتاب (ما لابدَّ منه في أمور الدين) للشيخ العالم أبو بكر خوقير - رحمه الله - بعناية الشيخ خالد بن علي العنبري وكتاب (رياض الجنة في الرد على أعداء السنة) لمحدث القطر اليماني الشيخ مقبل بن هادي وحياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لحسين خلف خزعل وغير ذلك مما قام به - رحمه الله - طلبا للخير وتلمساً للأجر.
ومنها: حنوه على الضعفاء والمساكين وإكرامهم والإغداق عليهم، فبيته مفتوح، ومزرعته (مشيرفة) مفتوحة وقلبه مفتوح، لا يرد سائلا، ولا يخرج من عنده أحد إلا وقد وجد منه فوق ما يؤمله من الكرم الفياض والجود الزخار والإحسان المتدفق، وأذكر انني زرته مع بعض الأفاضل، وقد أثقلته الديون، وظن بالله الظنون، فتكلمنا مع سموه - رحمه الله - فأمر له بأعطية مناسبة، ثم شفع له عند المسؤولين، فما مرت أيام إلا والبشارة قد أتت صاحبنا بأن شفاعة الأمير الراحل - رحمه الله - قد أتت أكلها وطاب جناها، فالحمد لله على ذلك.
وإن كنت أنسى فلن أنسى أنني زرته في ليلة باردة شاتية، ولم يكن لدي عباءة شتوية، فنظر إلى حالي نظر الكريم المشفق فأهداني فروته الخاصة، فلما أبيت وامتنعت عن أخذها، قال لي بلسان المحب، أيمتنع الولد عن أخذ هدية والده فقت له: لا، ثم أخذتها بنفس راضية، ولقد خصني - رحمه الله - بمزيد عناية، وعظيم رعاية، وما زرته إلا وجدت منه الكرم والخلق الجميل، فعليه - رحمة الله ورضوانه - وختاماً لا أقول إلا كما قال الشاعر: