| |
في ذكرى رحيل ( مصطفى العقاد ) بقلم: محمد قجة
|
|
ها هو الطائر المهاجر يعود إلى تراب وطنه، يعود محمولاً على الأعناق وقد قصّت جناحيه يد آثمة عشوائية في زحام الفوضى المبرمجة التي فرضت على بلادنا. عودة بعد نصف قرن من الاغتراب... ولكنها عودة نهائية من مشرق الدنيا إلى أقصى غربها.. ومن آسيا إلى أمريكا.. ومن سورية إلى الولايات المتحدة.. حطّ الرحال في (لوس أنجلوس) على مقربة من المحيط الهادي قادماً من مدينة التاريخ والعراقة والحضارة (حلب). ومن أعماق حارته القديمة (ساحة التنانير) إلى زوايا (هوليوود) وخباياها ودهاليزها. خرج من حلب عام 1954م يافعاً يحمل في جيبه مبلغ (200) دولار فقط، ولكنه يحمل في صدره (المصحف الشريف)، ويحمل مع كل ذلك توصيات والدته وأسرته بأن يبقى في غربته (مصطفى العقاد) الذي يختزن ثقافة وطنه وتراث أمته. كان العمل الفني يملك عليه أحاسيسه وفكره منذ صباه المبكر، واتّخذ قراره الصعب بالسفر إلى عاصمة السينما العالمية (هوليوود)، وكان الأسهل له والأقرب أن يتجه حينها إلى عاصمة السينما العربية (القاهرة)، ولكنه آثر ركوب المغامرة في أقصى درجاتها. هذا الفتى القادم من حارات حلب العتيقة، ويحمل اسمه بدلالاته العربية والإسلامية (مصطفى)، لم يفعل كما فعل كثيرون سواه حينما وصلوا بلد الاغتراب، فبدّلوا أسماءهم وكأنها عبء عليهم، وغيّروا سلوكهم وعاداتهم، وخرجوا من جلدهم ليرتدوا جلداً جديداً غريباً. بقي (مصطفى) الشاب الواثق بنفسه، والرجل الذي لم يشعر بالنقص ولم يحمل عقدة (الخواجة)، فهو يعلم أنه ابن الحضارات العريقة، وأنه ابن المدينة التي صنعت التاريخ فكراً وثقافة وعمراناً واقتصاداً. ولم يكتفِ مصطفى بالمحافظة على اسمه العربي وشخصيته العربية الحلبية، بل إنه اختار لأبنائه أسماء من التراث العربي بدلالاتها الواضحة: طارق، مالك، زيد، والابنة (ريما) التي قضت في الحادثة الأليمة نفسها في أحد فنادق عمان قبل عام من اليوم. = = = ما الذي جعل مصطفى العقاد يترك بصماته الفنية والفكرية والقومية، ويكون له هذا التميز العالمي، وقد هاجر قبله وبعده كثيرون إلى أقطار الدنيا فذابوا في مهاجرهم بدل أن يتركوا شيئاً يميزهم؟ وحتى كبار الفنانين الذين قُدِّر لهم أن يسلكوا درب العالمية قادمين من البلاد العربية ذابوا في تلك العالمية وأصبحوا رقماً صغيراً في زحمة سواهم من الكبار وغيّروا أسماءهم وسلوكهم وعاداتهم فأصبحوا هجناء. لقد أدرك مصطفى العقاد سرّ المفاتيح التي يدخل بها إلى هوليوود، وعرف دور الإعلام في تقديم الصورة الناصعة أو المشوّهة، وأدرك كيف يسيطر الصهاينة على الإعلام الأمريكي من خلال الإمساك بالتمويل اللازم لذلك الإعلام، حتى غدا اختراق هذا الإعلام أمراً مستحيلاً. وكان العقاد يقول دائماً: إن ثمن طائرة حربية أو دبابة حديثة أو نفقة سهرة حمراء يكفي لإنتاج فيلم يكون له صداه الإيجابي في تعريف العالم بالصورة الحقة للعرب والمسلمين، ولكن صيحات مصطفى لم تكن تلقى الاستجابة اللازمة. ومثال ذلك بحثه الدائب خلال السنوات الماضية عن تمويل لفيلمه التاريخي (صلاح الدين) دون جدوى، وبدلاً من ذلك كان هناك من يهمس في أذنه: دعك من فيلم صلاح الدين، فنحن في عصر ثقافة التطبيع وليس المقاومة. وعلى رغم الشهرة العالمية التي حقّقها مصطفى العقاد فإنه بقي الإنسان المتواضع الذي لم يعرف الغطرسة الفارغة التي يتسلّح بها بعض صغار الفنانين، وكان يدرك أن الإناء الفارغ هو الذي يحدث ضجيجاً أكبر، وأن آفة العلم الغرور، وفي الوقت نفسه لم يكن مصطفى ممن يبخلون بتجاربهم وخبراتهم على الآخرين.. وكان يسعده أن يرى تجربته موضع متابعة، وأن خبرته يقتدي بها سواه، ولا يرى في ذلك تطاولاً على تميّزه وفرادته وتألُّقه. بقي مصطفى العقاد ذلك الإنسان الحلبي المعتزّ بحضارته الإسلامية، ومن خلال ذلك بقي ملتزماً بقضايا الإنسان في ملامحها الكبرى من محبة وعدالة ومساواة واعتزاز بالشخصية واعتراف بالآخر ورفض للظلم والهيمنة والعدوان. لقد تجسّدت رؤية مصطفى العقاد الإنسانية والقومية والتراثية في عملَيْه العملاقين (الرسالة) و(عمر المختار). في فيلم (الرسالة) الذي أخرجه عام 1976م أراد العقاد أن يقدّم صورة الإسلام السمحة المرنة الداعية إلى المحبة والرحمة والإخاء والاعتراف بالأديان والشعوب الأخرى. وقد سبق العقاد زمنه في تقديمه هذا الفيلم العظيم؛ لأنه شعر بما يُحاك من مؤامرات لتشويه صورة الإسلام، واختراق تلك الصورة المشرقة من خلال منظمات مفبركة ذات ارتباطات عالمية حولها كثير من علامات الاستفهام. جاء فيلم (الرسالة) قبل ثلاثين سنة من موجة الرعب والعنف والاحتلال ومفهوم (الفوضى الخلاقة) وزرع الديمقراطيات من فوق ظهور الدبابات، وكأن هذا الفيلم برؤيته الشفافة الواعية جاء رداً مسبقاً على تلك الأضاليل التي يحاولون اليوم إلصاقها بالإسلام. هذا الفيلم بنسختيه العربية والإنجليزية شاهده عشرات الملايين، وترجم إلى أكثر من عشرين لغة، وتألّق من خلاله مصطفى العقاد رجلاً مؤمناً بتراث أمته وشخصية وطنه. = = = أما المحطة الثانية فكانت فيلم (عمر المختار) عام 1980م. والرؤية الفكرية في هذا الفيلم لا تنحصر في شخص البطل عمر المختار، ولا في حركة التحرير الوطني في ليبيا.. إنها دلالة رمزية على المقاومة الوطنية في كل زمان ومكان. واليوم بعد ربع قرن من إنتاج هذا الفيلم نشاهده وكأننا نشاهد مجازر الصهيونية في فلسطين، أو همجية الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، أو صوراً قديمة من الاستعمار بكافة أشكاله في الجزائر وسورية ومصر وإفريقيا وآسيا، أو همجية العدوان في لبنان. وهكذا ينجح العقاد في إخراج الشخصية من دائرة الفرد إلى نطاق الرمز، فيكتب لأعماله البقاء والاستمرار. = = = كم كان عظيماً ومهماً لمصطفى العقاد فرصة إنتاج فيلمه الكبير عن (صلاح الدين)، ومشروعاته الأخرى عن الأندلس وعن عروبة القدس. وكم نحن بحاجة إلى فهم هذا الرجل العظيم وما قدّمه لأمته من خدمات وخبرات ثقافية وإعلامية وحضارية تعجز عنها الجيوش ويقصر عنها الملوك والسلاطين. رحمك الله أيها الطائر المهاجر العائد من خبايا هوليوود من غير أن يغيّر ملامحه وثوبه واسمه وعاداته. وسوف يحفظ لك وطنك ما أسديته إليه من خدمات.. والوطن باقٍ لأمثالك من الرجال.. والوطن باقٍ لمن ينفع أبناءه ويصون تراثه: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} صدق الله العظيم. وها هو وطنك يبادر إلى تكريمك في مدينتك الخالدة (حلب)؛ فقد أطلق اسمك على أحد الشوارع الكبرى، واحتفل بذكرى رحيلك الأولى بإقامة معلم تذكاري لك في ميدان يحمل اسمك، وسوف يُقام لك أسبوع ثقافي سينمائي خلال الشهر القادم في ذكرى رحيلك تُعرض فيه أعمالك، وتُقام حولك وحول أعمالك الندوات والمحاضرات، وتُعرض أفلام أخرى موازية لعمالقة عالميين. وسوف يتقاطر زملاء لك من أنحاء العالم ليكرّموا ذكراك.. أنت الذي حملت وطنك في قلبك وذهنك وعلى كاهلك وطفت به العالم، وزرعت محبة بلدك في قلوب الناس حيثما حللت.. ها هي حلب عاصمة الثقافة الإسلامية تبادر إلى تكريمك كما احتضنتك قبل عام في مثواك الأخير... وها هي الثقافة الإسلامية المرنة المتسامحة تشرق من خلال أعمالك محبة وحضارة ووهجاً أخاذاً وصفعة في وجوه سلسة الناعقين في رتابة منتظمة صغاراً وكباراً، ساسة وإعلاميين وأدعياء ثقافة. وسوف يكون مهرجانك القادم في حلب رداً على هؤلاء جميعاً.. فلتطمئن نفسك؛ فأنت في قلوب أهلك ومواطنيك ومحبيك وأصدقائك والمعجبين بفنك الأصيل: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي }.
|
|
|
| |
|