طالعت ما كتبه الأخ عبدالمحسن الماضي بجريدتكم الغراء الجزيرة بعنوان (العقلانية) وأود إضافة بعض المسائل والنقاط المهمة حول هذا الموضوع.
الأولى: العلاقة بين الشرع والعقل في الإسلام
لقد اهتم الإسلام بالعقل اهتماماً بالغاً فجعله مناط التكليف، فإذا فُقِدَ ارتفع التكليف ويعد فاقده لا تكليف عليه بل جعله الإسلام إحدى الضرورات الخمس التي أمر الشارع بحفظها ورعايتها لأن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة عليها.
وليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني وتعتز به وتعتمد عليه في ترسيخها كالعقيدة الإسلامية وليس هنالك من كتاب أطلق سراح العقل ورفع بقيمته وكرامته كالقرآن الكريم بل إن القرآن ليكثر من استشارة العقل ليؤدي دوره الذي خلقه الله له ولذلك نجد في آيات القرآن {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ونحوها تتكرر عشرات المرات في السياق القرآني لتؤكد النهج القرآني الفريد في الدعوة إلى الإيمان وقيامه على احترام العقل والإسلام لا يرضى أن يطفئ المسلم نور عقله ويركن إلى التقليد الأعمى في مسائل الاعتقاد وغيرها.
الثانية: للعقل حدوده ومجالاته: فرغم تكريم الإسلام للعقل فقد حدد مجالاته التي يخوض فيها حتى لا يضل وهذا تكريم له أيضاً لأنه محدود الطاقات والملكات فلا يستطيع أن يدرك كل الحقائق مهما أوتي من قدرة وطاقة على الاستيعاب والإدراك لذا فإنه سيظل بعيداً عن متناول كثير من الحقائق وإذا ما حاول الخوض فيها التبست عليه الأمور وتخبط في الظلمات فأمر الإسلام العقل بالاستسلام والامتثال للأمر الشرعي الصريح فمجال العقل كل ما هو مشاهد محسوس أما الغيبيات التي لا تقع تحت الحواس فلا مجال للعقل أن يخوض فيها ولا يخرج عما دلت عليه النصوص الشرعية في شأنها.
الثالثة: نفي التعارض بين الشرع والعقل: فالواقع أن التعارض بين العقول السليمة وبين الشرع غير موجود؛ قال ابن تيمية رحمه الله: (ما عُلِمَ بصريح العقل لا يتصور أن يعارض الشرع البتة بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط) وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعارضوا ما جاء في السنة بآرائهم وعقولهم علموا معناه أو جهلوه جرى لهم على معهودهم أولاً فليعتبر بذلك من قدم الناقص وهو العقل على الكامل وهو الشرع. وقد اكتفوا رضي الله عنهم بما جاءهم عن رسول الله لعلمهم أن الحق فيه ووفقهم الله للعمل به ففتحوا البلاد وتفتقت لعلمهم الأذهان واستنارت بهم القلوب فنشروا دين الله في الأرض صافياً نقياً خالياً من الشبه والشكوك والأوهام والظنون.
الرابعة: مزالق مَنْ عارض الشرع بالعقل: إن من قدم العقل على الشرع فقد وقع في جناية عظيمة تؤدي به إلى مزالق وانحرافات خطيرة من أبرزها:
1- مضاهاتهم لإبليس حيث اعترض على الله عز وجل ولم يسلم لأمره بالسجود وعارضه بعقل.
2- مشابهة الكفار في اعتراضهم على الشرع {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.
قال ابن تيمية: (والداعي إلى تمجيد العقل إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً وما كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد وإلا لما أرسل الله الرسل.
3- اتباع الهوى: وأهل الهوى هم الذين لا يعولون على الأدلة الشرعية حتى يصدروا عنها بل قدموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم. ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك.
4- تناقض معطيات العقول: فالعقول نفسها تتفاوت وتتباين تبايناً عظيماً فللمتسائل أن يقول إذا كان العقل هو الحكم فعقل مَنْ يا ترى؟
إن العقل المطلق أو العقل المثالي تجريد لا وجود له في عالم الواقع إنما الموجود في الواقع هو عقل هذا المفكر وذاك المفكر ولكل منهم طريقته الخاصة في (تعقل الأمور). ولكل منهم (نوازعه) الخاصة التي يحسبها بعيدة عن التأثير في عقله وهو واهم في حسابه. ولكل منهم اهتماماته الخاصة التي تجعله يركز على أمور ويغفل غيرها من الأمور ومن ثم لا تصبح تلك الفلسفة في هذه القضية بالذات أداة هداية وإنما أداة تشتيت وتضليل.
5- وقوعهم في الشك والحيرة:
إن أساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر الغاية ودأبوا ليلاً ونهاراً في التعمق ودراسة هذه العقليات لم يصلوا إلى معقول صريح واحد يناقض الوحي بل وصلوا إلى الحيرة والشك أو الاختلاف والارتياب فكيف بمن سواهم ممن لم يبلغ ذكاؤه ذكاءهم ومعرفته معرفتهم.
وقد اعترفوا بحيرتهم وشكوكهم فالرازي (فخر الدين) صاحب التصانيف الكثيرة مع سبقه في باب المعقول وفرط ذكائه يشكو من حيرته وعجزه فيقول شعراً: