| |
يارا نهاية المثقف عبدالله بن بخيت
|
|
الكتب الأولى التي قرأتها ببعض الجدية تنتمي للستينات. لم تقو حقبة السبعينات التي بدأت فيها قراءة الكتب والدراسة الجامعية أن تتقدم على منتجات الوعي لحقبة الستينات كما لم تقو حقبة الثمانينات على منافسة السبعينات. الذين عاشوا بوعي كامل في حقبة الستينات يعرفون أن العالم كان مضطرباً عاصفاً يموج بالشعارات والحركات السياسية والثقافية والتغيرات الاجتماعية الكبيرة المتسمة جميعها بالأمل. كان هناك عالم سيئ يتلاشى وعالم إنساني يولد. إن ما يحدث في ذلك الزمان من حركة تشبه إلى حد كبير الحركة في زمننا هذا مع اختلاف جذري في اتجاه الطموحات. كانت أوروبا للتو خارجة من يأس الخمسينات بعد حرب طاحنة. كان لظهور الاتحاد السوفيتي كقوة أثر كبير على توازن التطلعات وإعادة النظر في النظام العالمي القديم برمته. فظهرت في الغرب كما في الشرق المنظمات المنادية بإنسانية الإنسان. كانت النزعة إلى التقدم هي الأساس الذي قامت عليه تلك الحقبة حتى تأثر بها أشد الرجعيين تطرفاً. لقد أجبرت الحركات الإنسانية القوى العالمية إلى العمل من أجل الخير. كان سباق التسلح ينذر بحرب لا تبقي ولا تذر ولكنها كانت تحمل في داخلها سباقاً عظيماً غير نظرة الإنسان للكون. عندما نقرأ المخترعات الإنسانية الحالية نرى أنها لا تتعدى صناعة رأسمالية تهدف إلى الربح فقط. فالجوال على سبيل المثال تطور من أداة مدهشة إلى مركز لاستقطاب طفيليات الرأس مالية. نغمات خلفيات كاميرات بلوتوث إلخ التي صرفت طاقة كبيرة من الخيال الإنساني والجهد والمال في اتجاه لا طائل من ورائه. كثير منا سمع عن سباق غزو الفضاء. كان مشروعاً كونياً ومغامرة عقلية لاقتحام المجهول. عندما حقق السوفييت أول إنجاز تاريخي بالصعود إلى الفضاء شعر الأمريكان بالمهانة العلمية فهبطوا بعدها بسنوات قليلة على القمر فقرر السوفييت أن هدفهم التالي هو كوكب الزهرة. طموحات عظيمة يشعر الإنسان أياً كان دينه أو موطنه أو أيدلوجيته بالسعادة والفخر بها. وقد رافق هذا التطور العلمي المذهل تطور آخر في اتجاه العقل والوجدان. كان ذلك الزمن عصر الكتب والفلسفات المتزاحمة. حتى انتهى بأن قاد الفلاسفة والمفكرون حركة السياسة العامية ووجهوها. لم ينهزم الاستعمار بفعل قوى التحرر الوطني فقط ولكن بفعل العمل الثقافي والفكري الذي اجتاح أوروبا وأمريكا في ذلك العصر. دون ميل إلى الفكر الشيوعي أرى أن سقوط الاتحاد السوفيتي هو في الواقع ضربة للإنسانية. نشاهد ذلك بوضوح على المستوى السياسي. إن غزو أمريكا للعراق أكبر ضربة توجهها القوى المحافظة لفكر المثقفين. كان يمكن أن تكون خطوة لعودة العبودية والبشاعة والاستغلال لو تحقق للمحافظين النصر في العراق ولكن المستوى الذي بلغه الإنسان في تقدمه (والذي فات على المحافظين) عطل المشروع وربما ألغاه. إن إزالة صورة رامسفيلد عن المشهد السياسي هو كناية عن إغلاق الملف ولكن هذا لا يعني أبداً توقف طموحات المحافظين أو المفكرين الرجعيين عن العمل في هذا الاتجاه، فكما هو معروف أن الرأسمالية تجدد نفسها وتعيد خلق طموحاتها وفقاً للعقبات التي تعترضها، فإن الفكر المحافظ لن يكف عن المحاولة لجني ثمار انتصاره على الفكر الإنساني. ربما يتكيف مع الهزيمة في العراق إلى أن يجد الطريقة التي يعبر بها عن طموحاته مرة أخرى. إن توقف المفكرين عن العمل واختفاء المثقفين عن المشهد الاجتماعي وتلاشي عصر الكتاب يفسح المجال له أن يعود مرة أخرى. إن أجمل ما في حرب العراق رغم بشاعتها أن الفكر المحافظ تلقى أول هزيمة منكرة من أول عمل له على المستوى الميداني، والأجمل فيه أن الصراع في العراق وإن كان على حساب الشعب العراقي البائس هو في الواقع صراع بين المنتصرين أنفسهم على الإنسانية. فالحلفاء الذين احتفلوا يوما ما بالنصر على الاتحاد السوفييتي في أفغانستان هم الذين يتصارعون الآن في العراق. والأعظم من هذا كله أن أمريكا لا يمكن أن تخرج من هذا الفخ إلا بهزيمة تاريخية تفوق الهزيمة التي تلقتها في فيتنام. بقاؤها في العراق كارثة عليها وخروجها من العراق كارثة على إسرائيل. جاءت أمريكا لتؤمن لإسرائيل منطقة آمنة فتحولت إسرائيل رهينة للمبادلة مع الجيش والمصالح الأمريكية.
yara4u2@hotmail.com |
|
|
| |
|