وحين هممت بالتقميش، تذكَّرت ما قرأت في كتاب (أنا) وكتاب (في بيتي) وكتاب (حياة قلم)، للمفكِّر العربي (عباس محمود العقاد)، وهي تمثِّل جانباً من حياته الفكرية، فيما تمثِّل روايته الوحيدة (سارة) حياته الغرامية الفاشلة، والتي انطلق منها (عامر العقاد) رحمه الله، لتقصى ما لا يجوز، في كتب صفراء، سمّاها (غراميات العقاد) و(المرأة في حياة العقاد)، وهو لون من الارتزاق غير المشروع. وليست (اليوميات) ل(العقاد) بأجزائها الأربعة الضخام من قبيل السيرة الذاتية، ولكنها تعليقات تشتمل على النقد والرد والسؤال والجواب لمختلف المعارف والقضايا. وقد كتبها في خريف حياته، حيث وهن عظمه، وخارت قواه، وشحّت موارده، فكانت أشبه بالخواطر، ليعيش حضوراً، ويكسب قوتاً، وبئست حياة تزورُّ عن العظماء، وتنبطح تحت أقدام الأقزام. و(العقاد) في كتبه الثلاثة أفاض، بالحديث عن تلقلُّباته الفكرية والقرائية، وقد خصّ مكتبته في كتابه (أنا) بفصل موجز، بسطه في كتابه (في بيتي)، وإنْ أوغل في الفلسفة عندما تحدث عن (النور والروح والمادة) حديثاً جدلياً ممتعاً، يتكئ على الحوار مع صاحبه. أمّا حديثه في (حياة قلم) فقد كان أجمل ما فيه حديثه عن (ولادة قلم) و(قلم يشق طريقه)، ولو كتبتُ عن قلمي، لكاد يكون ما أكتب مستلاً من (العقاد)، ليس عجزاً، ولكنه التشابه في النشأة والظروف، وبقدر تأثُّره السَّاذج ب(النديم) كنت معه في مطلع حياتي. وهو حين يتحدث عن (أزمة قلم) فإنّما ينطلق من الأزمات المادية التي تعرّضت لها صحف الأفراد، و(العقاد) يعيش من شبات قلمه، وليس من عرق جبينه، فهو قد رفض أن يبيع نفسه بالتقسيط على الحكومة - على حدِّ تعبيره - فالوظيفة عنده قيد حريري، يعوق الانطلاق، ويحبس الكلمة، ويستنزف الجهد والوقت، بثمن بخس هو الراتب الشهري، وحسناً فعل. وحياة (العقاد) متميّزة كتميُّزه بين أقرانه، فهو لم يكمل دراسته، ولم يتزوج، ولم يتوظّف، وهذه الفضاءات الثلاثة مكَّنته من تشكيل فكر حر، لا يخشى في الحق لومة لائم. فكان صعلوكاً متحضّراً، يردِّد مع الصعاليك قول أحدهم:-
(خُلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة |
عليَّ يداً أغضي لها حين يغضب) |
وينشد مع (الحميري) قوله:-
(عدسْ مالعباد عليك إمارةٌ |
ولقد اختلفْتُ معه في خصوصياته الثلاث، فكان أن تزوّجت مبكراً وتوظّفت مبكراً، وتباطأت في إكمال دراستي، ولكنّني أكملتها عبر جامعات ثلاث، تعرّفت من خلالها على أساطين الفكر والأدب. وتجربة العقاد الفكرية تشكِّل الجذور الأولى لرؤيتي، وإنْ عدلت عنها بعض الشيء، حين وصلت حبالي بالتراث، عبر موسوعاته الثقافية وبناشطي الفكر الإسلامي، كشيخ الإسلام (ابن تيمية)، حيث امتدت نظرتي إلى مصادره المعرفية الأهم في (المحلى) ل(ابن حزم) و(التمهيد) ل(ابن عبد البر) رحمهما الله، وحفظت التوازن في (المغني) ل(ابن قدامة). وهو كتاب في الفقه المقارن، وتحوُّلي الفكري من خلال تواصلي مع التراث، لا يقلُّ عنه تحوُّلي الأدبي من خلال تواصلي مع (مناهج النقد اللغوي الحديث)، و(مذاهب الأدب ومدارسه). ونزعتي الفكرية أميل إلى التكاملية والانتقائية، فمع اعتزازي بالسلفية، إلاّ أنّني لم أكن سلفياً خالص السلفية، إلاّ في الأصول العقدية، أو ما يسمَّى ب(الفقه الأكبر)، أو قل لست مرتهناً لمدرسة سلفية معيّنة. وإشكالية (السلفية) أنّ لها محطات تاريخية، لكلِّ محطة قضاياها التي أسهمت في توجيه الرؤية. والدليل على ذلك أنّ كلاًّ من (أحمد بن حنبل) و(أحمد بن تيمية) رحمهما الله، مرَّا بمحنة وامتحان، ولكلِّ محنة أجواؤها الفكرية المغايرة، ولكلِّ جوٍ خطابه، فمحنة (ابن حنبل) مع (المعتزلة) حول (خلق القرآن)، أمّا (ابن تيمية) فمحنه كثيرة، كما يقول صاحب (ذيل الطبقات)، وهو مجتهد في الفروع، وله مفرداته التي أثارت علماء المذاهب المتعصِّبين. ولك أن تقول مثل ذلك عن (محمد بن عبد الوهاب)، وغيره من المصلحين ك(الألباني). فالحركة الإصلاحية ل(ابن عبد الوهاب) اهتمت بحفظ جناب التوحيد، وتشكيل كيان سياسي يحميه. والحركة السلفية عند (الألباني) ركّزت على تصفية النص، وتربية الأُمّة على القيم، والعودة إلى الكتاب، وصحيح السنّة، الأمر الذي أثار عليه أصحاب المذاهب الفقهية، ولقد ساعد على ذلك حدّة طبعه، وعنف رده، وعدم مصانعته، واحتدام مشاعر مريديه.
وهكذا تتعدّد الخطابات بتعدُّد الأولويات. والتكاملية والانتقائية عندي ماثلة كذلك في الاتجاه النقدي، ومن ثم وصفني بعض الخصوم بالناقد التلفيقي، و(النزعة التلفيقية) نزعة فلسفية، تقوم على الخلط غير المنظم. ومن أمثلتها كما جاء في بعض الموسوعات (التزويج بين المادية والمثالية، وربط المذهب الماركسي بالمذهب التجريبي النقدي). وكم استفدت من المذاهب والتيارات التي واجهتها ك(الحداثوية) و(البنيوية)، و(التفكيكية) وغيرها، وفضل أصحابها عليَّ كفضل من أشايع. ولكيلا أقع أسير فكر واحد، فقد حاولت أن أستبين مكوّنات العقل العربي المعاصر من خلال كتب المفكرين ومذكّراتهم، ولقد وقفت على عدد لا بأس به من السير الذاتية عند (العقاد) و(طه حسين) و(أحمد أمين)، و(بدوي) و(عوض) و(إحسان عباس) و(إدوارد سعيد) و(عنان) و(العريان) و(هيكل) و(الجابري) و(زكي محمود) وآخرين. كما شغلني العقل البشري وبوصفه موضوعاً، فتقصّيت مشروع (الجابري)، وردود الفعل عند (الطرابيشي) ومن عاضده، أو خالفه حول مشروعه، كما هو عند (الياس مرقص) و(هشام غصيب) و(يحيى محمد)، كما امتدت نظرتي إلى تناولات (كانت) و(نورمان بريل) و(ماركيوز) و(باشلار) و(برنتون) و(لوكاش) وربطت ذلك كله بمفهوم العقل في الإسلام وحدوده واختلاف (المعتزلة) مع (السلفية) في ذلك. وليس مهماً عندي الاختلاف في وجهة النظر، متى استطعت أن أسيطر على الموقف، وأن أعرف القدر المسموح به، وفق رؤيتي ومذهبي الفكري. ولقد تعمّقت صلتي بمثل هذه السير الفكرية حين حُكِّمت في جائزة عالمية، وحين ناقشت رسالة (السيرة الذاتية في الأدب السعودي)، وحين كتبت دراسات لم تر النور بعد، ولكي أكون على بيِّنة من أمري، فقد امتدت نظرتي إلى مجمل الدراسات التنظيرية والتطبيقية المؤلَّفة والمترجمة عن (السيرة الذاتية) في سائر الآداب العالمية. ويوازي ذلك دراسات الظواهر والشخصيات والتاريخ الفكري عند (أحمد أمين) و(حسن حنفي) و(فهمي جدعان) و(علي النشار)، ولكلِّ واحد منزعه العقلي الذي لا أمضي معه، وإن استكنهته. ومذكّرات الساسة ليست بأقل تأثيراً مما سلف، لا من خلال التحوُّل من الفني إلى السياسي، ولا من خلال العدول عن بعض المواقف، لقد أيقنت أنّ كلَّ فعل سياسي مؤثر إن هو إلاّ وليد لعبة صنعها الكبار ونفّذها الصغار، ولهذا اجتهدت في تفحُّص الوثائق المفرج عنها، واستكناه سير القادة المؤثرين من عمالقة السياسة العالمية، وتقصِّي قوانين اللعب السياسية وقواعدها، ولم أكن خِبّاً يخدعني الإعلام الموجَّه، وتحوُّلي إلى الكتابة الفكرية والسياسية، لا تمثِّل الانقطاع عن الأدبي وإنّما تعني التوسُّع في مهمات الأدب.
وتجربة القراءة العصيبة تتمثّل في البداية والاختيار، فأي الكتب تقتني ولأي الكتّاب تقرأ، ومن أي الموضوعات تنطلق. لقد كان منطلقي قبل نصف قرن من (مكتبة بريدة العلمية) التي أمر بإنشائها (الملك سعود) رحمه الله، وأشرف عليها وتابعها، ودرس فيها الشيخ (عبدالله بن حميد) رحمه الله، ومكتبة (المعْهد العلمي) الذي التحقت به قبل أربع وخمسين سنة. والمكتبتان حافلتان، بكتب التراث، والتراث العربي مليء بالجيد والرديء، والمنجي والموبق، والغث والسمين. وتأسيسي الأدبي في بداياته كان على الموسوعات الأدبية ك(البيان والتبين) و(الأغاني) و(العقد) و(صبح الأعشى) و(المستطرف) و(الطبقات) و(الخزانة). ولمَّا أزل حتى الساعة وثيق الصلة بتفسير (ابن كثير) وديوان (أبي الطيب) ولزوميات (المعري) وموسوعة الفتاوى) (لابن تيمية). وإذا استدركنا على المعاصرين شطحاتهم المخلَّّة بالقيم، فإنّ الذين سبقوا من علماء وأدباء وفلاسفة، وكتبوا سيرهم العلمية أو العملية، كانت لهم شطحاتهم التي لا تقلُّ عن شطحات من خلف. والمتعقِّب لمن كتب عن ذاته في التراث، يجده إمّا مغرقاً في الإدعاء، أو ممعناً في الزهادة، والذين ترجموا لأنفسهم، عول بعضهم على ذكر الشيوخ والأنساب، وتحديد المذهب، والرحلة في طلب العلم. وتلك أبرز السمات لسير التراث، ولكن للأدباء والفلاسفة طرائق أخرى، لا تعول على ذكر المدارس والشيوخ والأنساب.
ف(ابن سينا) يأخذه الزهو والاعتراف، حين يذكر جلَده واستعانته بالشراب على الكسل. و(ابن عربي) يوغل في المكاشفات والكرامات، ولكنّه لا يتجاوز إلى الشعوذة، مثلما فعل (الشعراني)، أمّا عن الاعترافات غير المسفة فنجدها عند (ابن حزم) في (طوق الحمامة) وفي (الأخلاق والسير)، وهنا يبدو لنا في حديثه الفرق بين (الصدق) و(الصراحة) في السير الذاتية، فالصدق ألاّ يكذب، والصراحة ألاّ يتكتّم. وكلُّ الذي وقع فيه (ابن حزم) أنّه خالف الأعراف السائدة عند لداته من العلماء، وإلاّ فهو لم يخرج على السلوك الأخلاقي. ولا حجة لأحد بالتراث العربي، فهو إنساني، له وعليه، ولم يطلب منا الرد إليه عند التنازع، وموسوعات (الحيوان) و(الأغاني) و(الدارات)، وكتب (المثالب) و(الصداقة والصديق) و(الرسائل)، وسعت سفاسف الأمور، وليست حجة، ونبش عفنها جناية لا تغتفر، وقد فعلها (طه حسين) في (حديث الأربعاء)، وعول عليها (شوقي ضيف) في (الشعر والغناء في المدينة ومكة)، ولقد يسّر الله من يحمي جناب المقدسات من المفتريات حيث أنجز الدكتور (عبد الله الخلف) رسالة علمية رد فيها على (ضيف). على أنّ (أدب الرحلات)، حوى من السير الذاتية الشيء الكثير، وهذا اللون يُعد مصدراً أخلاقياً ووعاء للتجارب المهمة، لم يلتفت إليه الدارسون بالقدر الكافي.
ولأنّ القراءة بحاجة ماسة إلى الجهد والوقت والمال فإنّها موبقة أو معتقة، وما أكثر الذين أضلّتهم القراءة، أو أضاعت جهدهم ووقتهم ومالهم معاً. ومكمن الخطورة أنّ متكأ الإعلام المعاصر ومصدر تألُّقه، يكمن في الحديث عن المسكوت عنه و(اللا مفكر فيه)، وما هو مظنة الإثارة في أمور تتعلّق بالدين أو بالمرأة أو بالسياسة، لارتباط ذلك الثالوث بالسلطة، حتى أصبح المرتع الوخيم لكلِّ من تعجّل الحضور والتزبب في زمن الحصرمة. ومن جهة أخرى يوغل الإعلام في التوافه لإشباع رغبات المترفين الذين لا يشغلهم إلاّ قتل الملل، وإزجاء الوقت. وذلك بالحديث عن (الفن الهابط) وأحوال الفنانين والفنانات، أو الحديث عن (كرة القدم) واحتراف اللاعبين، وتلاحي المشجعين، أو الحديث عن (الشعر الشعبي) ومتعلّقاته، وأحوال (المجتمع) من ظعن وإقامة. وكلُّ ذلك المقروء للتسلية ليس غير. وتجربتي الثقافية لا ترفض مثل ذلك، ولا تعزب عن ذكرها ظواهر المجتمع السلبية والإيجابية. فالمهتم بأحوال المجتمع لا بدّ أن يلم بكلِّ ظواهره، ومن ثم نشأت عندي القراءة الاستعراضية، التي تحيط بأطراف القضايا، ولا تتعمّق فيها. إذْ هناك قراءة وظيفية، بمعنى أنّها أنشئت للوصول إلى شيء محدد، كقراءة الرسائل الجامعية للمناقشة، وقراءة البحوث للتحكيم أو للترقية. وهناك القراءة التحضيرية، كإعداد المحاضرات، والإعداد للندوات، أو الاستعداد للردود عند الاختلاف حول الظواهر والقضايا. وهناك قراءة الاكتشاف، كالتعرُّف على مفكر أو فكر. وهناك قراءة التزوُّد، وهي القراءة الحرة المفتوحة.
وهذا اللون من المقروء العابر، يلم به البعض للترويح عن النفس، فيما يدمنه آخرون، ويرونه غاية المراد. ولا شك أنّ هذا لون من سلبيات القراءة، وهو فيما أرى أهون الضررين، إذْ لا يتجاوز اللمم، وإن ترتبت عليه إضاعة الجهد والوقت والمال. أمّا اللون الأشد ضرراً والأفدح خطراً، فهو ما تنتجه الأفكار المنحرفة، والمذاهب الهدامة، وهو الأكثر جاذبية، والأقدر على الإغراء، والأذكى في نصب الحبائل، وجذب القراء. ولقد نشطت وسائله، وتعدَّدت مصادره، وتنوّعت فنونه، واستشرى خطره، وعم ضرره، و لا يخلو عصر من العصور من طوائف متعدِّدة الآراء والأفكار والعقائد. ويكفي أن يستعرض القارئ موسوعات الملل والنحل ومعاجمها، وما يدور في علم الكلام في عصور الازدهار، أمّا في العصر الحديث فقد تبدّت أساليب جديدة، ومناهج حديثة، ومذاهب فكرية متعدِّدة بتعدُّد القائلين، كما نجم فيه الفكر الإلحادي، المتوسل بالهدف لا بالجدل، والمعول على المادة. ولكلِّ عقد من الزمان همومه ومثيراته وقضاياه، والتفكير في العصر الحديث كاد ينحصر في المادة، بوصفها ماثلة للعيان. والتاريخ الفكري الحديث حافل بالتجارب الفكرية والسياسية والأدبية، وبالتحوُّلات في تحديد مركزية البحث، والدخول في المعمعة مجازفة محفوفة المخاطر.
|