| |
حديث الأسبوع عندما أثار الرقم (13)في نفسي تشاؤماً د. محمد غياث التركماني
|
|
من الحكايات والتجارب التي مررت بها عندما كنت طالباً في كلية الطب قصص لا تنسى ومازلت أذكرها بحلوها ومرّها حتى مع مرور أكثر من عقدين من الزمن على حدوثها. عندما كنت في السنة الأخيرة من كلية الطب قضيت وقتاً لا بأس به طبيباً متمرناً في قسم أمراض الأطفال. وأذكر أنني كنت مناوباً في القسم، وصادف أن عرض عليّ أحد الزّملاء حالة طفلٍ عمره سنة ونصف، كان قد أرسله أحد الأساتذة المشهورين من عيادته الخاصة لدراسة أسباب نقص الوزن والنمو عنده، إذ كان لا يزيد وزنه على خمسة كيلوجرامات، وكان الأستاذ قد أرفق مع الطفل ورقة طويلة فيها جملة من (الأوامر) تطلب منا إجراء العديد من الفحوص والتحاليل والصور الشعاعية للطفل للتحري عن أسباب نقص الوزن لديه. في البداية استغربت كثيراً أن يجد ذلك الأستاذ المشهور كل هذا الوقت الكافي لكتابة تلك (الأوامر)، إذ إن عيادته مزدحمة جداً وكان معروفاً عنه سرعته في فحص المريض حيث إنه يكون قد أنهى الفحص وكتابة الوصفة قبل أن ينتهي أهل الطفل من ذكر شكواهم. وأشك كثيراً في أن يكون هناك توافق بين الشكوى نفسها والفحص والوصفة الطبية... لكن أستاذنا هذا كان (دبلوماسياً) من الدرجة الأولى، وذا ابتسامة عريضةٍ يتظاهر معها باللطف الشديد مما يجعل أهل المريض يتقبلون منه نقص العناية، فضلاً أن ازدحام وكثرة المرضى تجعلان العين -كعين الرضا- كليلة عن كل عيب. لقد قام الطبيب الزميل بفحص الطفل ثم أخبرني بأنه يريد أن يبدأ معه أولاً بتصوير المعدة والقسم العلوي من الجهاز الهضمي ثم تصوير القولون والجهاز البولي ويختم مسيرة الفحوص هذه بمجموعة من التحاليل الدموية. عندما سمعت ذلك شعرت بالفزع من هذا الهجوم الطبي الشديد وهزّ في نفسي رثاءً بهذا الطفل المسكين الذي وقع بين مطرقة الطبيب المشغول الذي لم يجرِ فحصاً دقيقاً ولم يأخذ قصةً مرضيةً مفصّلةً بل استعاض عن ذلك بفحوص طبية عديدةٍ وكثيرة، وبين سندان طبيبٍ شابٍ دفعته حماسته أن يسعى إلى التشخيص بكل ما أوتي من قوة في الفحوص والاختبارات والصور الشعاعية دون أن يدرك قساوة وإيذاء تلك التحريات والاستقصاءات. وهنا أخبرت الطبيب الزميل أن علينا أولاً أخذ قصة مرضية كاملة، وأن نعلم كل شيء عن تغذية الطفل، ومتى لوحظ نقص الوزن لديه؟ وعن وضع الطفل في أسرته وعدد الأطفال الآخرين. لذلك توجب علينا مقابلة الأهل والاستفسار منهم عن كل هذه الأمور وقلت له لن نجري له اختباراً واحداً. قابلت والد الطفل. إنه موظف بسيط ولديه ثلاثة عشرة ولداً ما بين ذكر وأنثى ومع أنني لا أتشاءم من الرقم (13) إلا أنني في هذه المرة لم أملك إلا أن شعرت بالتشاؤم وقلت في نفسي: إن طفلاً عمره سنة ونصف يجلس على الطعام مع أب وأم و(اثني عشر من الأطفال) لن يصل إليه ما يكفيه من الغذاء. لذلك وجدت أن أستمر في تغذيته دون إجراء فحصٍ طبيٍ واحدٍ، لأن هذه الفحوص - بلا أدنى ريب - (ستزيد الطين بلّه) وتؤثر حتماً على تغذية الطفل سلباً لأن جميعها يتطلب حمية وامتناعاً عن الطعام لعدة ساعات قبل كل فحصٍ. ولو أجريت هذه الفحوص لطفل بدين لفقد بالتأكيد كثيراً من وزنه فما بالك بطفل ناقص للوزن أصلاً؟.. لكن هذا لم يناسب زميلي الطبيب وقال لي: ماذا لو علم الأستاذ الذي أرسله بذلك؟ سوف يغضب منّا غضباً شديداً إذا لم ننفّذ أوامره. قلت له: دع الأستاذ لي وسأتدبر الأمر. مرّ أسبوع على دخول الطفل إلى المستشفى، كان وزنه يزداد يوماً بعد يوم، لقد ازداد وزنه قرابة نصف كيلوجرام والحالة في تحسن مستمر. ومرّ أسبوعان بل ثلاثة ثم تذكّر الأستاذ أنه أرسل طفلاً إلى المستشفى.. وعندما رآني سألني عنه فذكرت له أن وزن الطفل قد ازداد أكثر من كيلوجرام ونصف الكيلو خلال مدة مكوثه لدينا في المستشفى، وأنه إذا أصر على الفحوص فسأقوم بإجرائها.. ولكن من ذا الذي يناقش النجاح؟ ولم يجد أستاذنا ما يضيفه إلا استحساناً قائلاً: حسناً يا بنيّ استمر في تغذية الطفل ولا داعي للفحوص وربت على كتفي مبتهجاً بالنجاح. بعد شهر من الزمن غادر الطفل المستشفى وقد ازداد وزنه 2 كيلوجرام أو ربما أكثر، وهذا كان لي برهاناً أكيداً أن سبب نقص الوزن لديه هو نقص التغذية ليس أكثر! فعندما يجتمع هذا الطفل وإخوته على طعام فلن يشبع منهم إلا من كان طويل الذراع، قوي الساعد، أما الضعيف فلن ينال ما يحتاج إليه، فضلاً عن جوع الطفل إلى حنان الوالدين، إذ لو أرادت الأمُّ أن تقبّل أطفالها واحداً واحداً فإن شفتيها ستصابان بالاهتراء قبل الوصول إلى طفلها الأخير. أحمد الله أنني لا أتشاءم أبداً من الرقم (13) ولكن عندما يدلُّ هذا الرقم على عدد الأولاد فهذا بالتأكيد يثير في نفسي القلق ويبعث فيها ولو شيئاً قليلاً من التشاؤم.
|
|
|
| |
|