ومثل هذا لو صنع في القرآن الكريم لعاد باطلاً كله، والسيدة لم تكن إلا بوقاً من الصّفر نفخ فيه من نفخ (يريد الأستاذ أمين الخولي) لسبب يسأل عنه عبدالعزيز فهمي باشا، حيث قال عن (دفاع عن البلاغة): (وخرجت من هذا الكتاب بأن دراسته لا تصلح للمبتدئين ولا لأنصاف المتعلمين) لأنه مقارنة قوية لبلاغة اللغة العربية بالبلاغات اليونانية واللاتينية وغيرها. دراسة هذه المقارنات، إنما تصلح للمتخصصين في علوم العربية، ويسرني أن أسمع أن إدارتي جامعتينا قد قررتا تدريس هذا الكتاب لطلاب التخصص في اللغة العربية.. ولم يكن شيخ القضاة يعلم أن في كلية الآداب شيخاً من شيوخ الدين يزعم لنفسه التجديد في البلاغة والأدب والأسلوب حتى في الزي، ويجمع حوله طائفة من الطلاب سماهم باسمه، وجعل في يد كل منهم سكيناً ثم أغراهم بجلود الذين أوتوا نصيباً من الذكر والكرامة، وقد عزّ عليه أن يحكم قاضي القضاة لكتاب ليس لهم، والكاتب ليس منهم، فتصايح الأمناء أين نحن إذاً؟
وهل يجوز لأحد غيرنا أن يتدخل في شؤون البلاغة، ثم سول لهم كبيرهم أن يسقطوا في هؤلاء المتطفلين بتشويه الكتاب، فتعاونوا على الصفحات الأولى منه، ثم حملوه هذه السيدة، وهي زوج الشيخ فتحملته وتولت كيده، ومن السهل على أي طفل أن يمزق أي كتاب بأي سكين، ولكن التمزيق الصارم كالتشريح بالمبضع المرهف لا يستطيعه إلا الجهابذة الموهوبون).
* هذا بعض ما قال الزيات، وقد كتب عن دفاعه عن البلاغة أساتذة كبار، مثل عباس محمود العقاد وسيد قطب وإبراهيم المازني، فأشادوا به فوق إشادة عبدالعزيز فهمي باشا، فظهر الحق.. وإذا تركت باب النقد إلى باب الشعر.
نجد أن الأستاذ عادل الغضبان قد أحسن كل الإحسان حين أراد لبحث الرائع من الشعر القديم، فاختار في كل عدد قصيدة نادرة من عيون الشعر العربي احتفل بها القراء، وفيهم من جميع هذه القصائد لتكون من محفوظاته، وأذكر أنه افتتح هذه المختارات بقصيدة عروة بن حزام الشهيرة.
خليلّي من عليا هلال بن عامر |
لجفراء عُوجا اليوم وانتظراني |
كما ثنّى بقصيدة المضرس المزني التي مطلعها:
أما ما اختاره مما يرد إليه من الشعراء المعاصرين، فكان من الجودة والانتقاء بحيث أصبح ذخيرة أخرى.
* وأذكر أن شعراء العالم العربي سطعت قصائدهم الممتازة على صفحات الكتاب في إعدادها المسلسلة، ومنهم الأساتذة الكبار علي الجارم، وخليل مطران، وشبلي ملاط، وبشارة الخوري، وخليل مردم، ومحمود حسن إسماعيل، ومحمد بهجت الأثري، وخير الدين الزركلي، والأستاذ عادل شاعر موهوب، وقد اختار لنفسه بعض القصائد، وأذكر منها هذه القصيدة الحماسية التي نظمها في جندي، يصف مشاعره نحو البطولة التي وهبها لوطنه، وقد قال مخاطباً إياه:
والعوالي دونه كنَّ الجوابا |
بعد أن فارقت أهلاً وصحابا |
مَسكناً وحشا وصحراء يبايا |
قم إلى الحرب وخض منها العبابا |
وأيقظ الفولاذ في الروع ركابا |
غُص بقعر البحر واسبق حوته |
واعلُ في الجو وسُق فيه السحابا |
بزئير يُفزع الأسد الغضايا |
وتمضي القصيدة على هذا المنوال، وباب القصة في الكتاب بابٌ رائع حقاً حيث اختار الأستاذ عادل لقرائه في هذا الفن نماذج مما أبدع الفنانون في العالم العربي، فتجلت صحائف فنية رائعة لكرم ملحم كرم، ومحمود تيمور، وميخايل نعيمة، وعبد الحميد جودة السحار، والكاتب الألباني وهبي اسماعيل حقي، مع نماذج من فن الشباب الناهض، وكان اختيار هذه القصص يراعي جودة الأسلوب، وارتفاع المبنى مع المسلم به من روعة التصوير، ودقة الأحاسيس والتدسس إلى مطاوى النفوس. والمناسبات السياسية تجد صداها القوي على صفحات المجلة، الصدى المتزن العاقل، الموضح للأسباب المهيء للنتائج. وأذكر أن مجلة الكتاب في مجلدها الأول قدمت ملفاً علمياً سياسياً رائعاً خاصاً بالملك عبدالعزيز رحمه الله، حين زار مصر، ولاقى من حفاوة الشعب المصري ما ليس بعده من احتفال، وكان ممن تحدث عن جلالة الملك الراحل في هذا الملف الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، والأستاذ خير الدين الزركلي والأستاذ عبدالله القصيمي، فكتبوا مقالات ذات وثبات عقلية تضيء للقارئ بعض الجوانب الهامة في شخصية الملك الكبير.
إن الحديث يطول عن أثر عادل الغضبان في مجلة الكتاب، ويكفي أنه أدى الرسالة الأدبية كأحسن ما يكون الأداء، وكان عربياً مخلصاً وناقداً بارعاً، وشاعراً مبدعاً، وصحافياً ممتازاً، وتلك صفات يتعذر جمعها في الكثير.. إلا من كان من طراز الأديب الكبير.
|