| |
أحلام في الظلام سمير علي
|
|
لا أدري لماذا أشعر بالحزن دائماً.. هل لمجرد أني أعمى لا أبصر؟! لكني لست الوحيد بين البشر الذي لا يستطيع أن يرى الشمس وهي تشرق أو تغيب.. هل لأني لست بقادرٍ على رؤية الجمال في الطبيعة؟ يكفيني سماع خرير الماء وهو يسقط من صخرة إلى أخرى.. وأنين الرياح كلما صالت وجالت في الأودية.. ودوي الرعد كلما غامت السماء بسحاب مثقل بحمله.. يكفيني سماع البلابل عندما تشدو والطفولة عندما تضحك.. والنسيم عندما يلعب وحبات المطر عندما تهطل. ومع هذا كله فأنا أشعر بالكتابة دائماً.. هانذا أقف في محطة الحافلات أنتظر وصول الحافلة التي تذهب بي حيث أدرس ويدي اليمنى تمسك بها أختي الصغيرة.. ويدي اليسرى أمسك بها عصاي رفيقة دربي وبعض كتبي التي أتعلمها.. أما أختي الصغيرة فهي الأخ والأخت والأب والأم والصديق.. وإن كانت صغيرة السن فإنها تكاد تكون مربيتي.. تعتني بشؤوني من مأكل ومشرب وملبس وما إلى ذلك من روتينيات الأيام.. وإضافة إلى هذا فهي تقرأ لي يومياً ربع ساعة قبل أن أخلد إلى النوم وأني لأراها غالباً تفهم ما تقرؤه لي. ها هي بصوتها الهادئ الوديع تقول لي (هيا يا أخي.. الحافلة قد وصلت.. انتبه لنفسك وكتبك وعصاك) وها هي تمسك بيدي جيداً مساعدة في صعودي للحافلة.. دخلت الحافلة وضجيجها يفصح عن زحام شديد.. حاولت أن أتقدم فإذا بي اصطدم بأكوامٍ من اللحم البشري فقنعت بوقوفي حيث وقفت.. غير أن صوتاً جهورياً يبدو أن صاحبه بدين الجثة سمعته يقول: يا بشر.. يا عالم.. ألا ترون كم أزعجني هذا الرجل بكلماته تلك.. ليته ما نطق بها.. أعلم أني أعمى.. وأعلم أني أقف في مكانٍ قريب من الباب.. يعني أقف بجوار الخطر.. لكنني لست بحاجة إلى كرسيك أيها الرجل.. لأنه لك وليس لي.. لماذا لا يعدوني شخصاً عادياً بينهم؟ هل ذنبي أن مرضا أصاب عيني فغدوت ضريراً؟ هل ذنبي أني لا أستطيع السير إلا بعصا أتلمس بها دربي؟ وأني لست بقادرٍ أن انظر من خلال نوافذ الحافلة وأرى واجهات المحلات ودروب المدينة؟ إنني لأشعر أن في داخلي دروباً لا تنتهي.. دروباً غاصت بمحلات اشتري منها حياة أخرى وفكراً آخر وحرية أخرى وشمساً أخرى.. حياة رائعة وإن كانت مظلمة وفكر آخر غير الذي تقرؤه لي أختي وإن كان فكراً ليس رداءً حزيناً.. وحرية أخرى غير التي أعيشها داخل جدران منزلي وإن كانت حرية معصوبة العينين وشمسا غير شمسكم هذه أيها البشر... وإن كان دون لهيب ودون حرارة.. داخل ذاتي لا أحد يقول لي: أنت أعمى.. فلماذا تقسو علي أيها الرجل؟ كم أشعر بوخز كلماته تحت جفني.. ومع هذا وعلى الرغم مما قاله لم يعره أحد جواباً وتركوه وكلماته وحيدين. ويبدو أن الرجل تنبه لموقفه فشعرت بعصاي تجذب مني وإذا الصوت يقول: (تعال هنا ياعمي..) ولم أدر بنفسي وأنا أحشرها بين الزحام أحاول أن أصل إلى جاذب عصاي وأخيراً شعرت بيده وهي تصل بي إلى كرسي يبدو أنه قام عنه وتركه لي.. فجلست شاكراً إياه بلساني معاتباً له بقلبي. مرت دقائق والحافلة تقف بين الحين والحين كلما علا صوت يقول (عندك يا شيخ) أو (بالله على جنب) أما أنا فلا حاجة بي إلى كل ذلك، فالحافلة تنتهي محطاتها حيث أدرس.. لاتزال الحافلة تسير.. وضجيج الركاب يعلو.. وهدير المحركات يطغى على أصواتهم.. أما أنا فصامت لا أجد محدثاً.. منذ العام الماضي عندما بدأت استقل حافلة كل صباح لماذا يتحاشون الحديث معي؟ لماذا لا تتحدث معي يا أخي؟ وإذا عجزت أنا عن رؤيتك فلا أقل من أن تسمعني صوتك.. وإذا عجزت عن ذلك فلا أقل من أن تسمع صوتي فهو لا يقل جهارة عن صوتك ولا أوتار حنجرتي تقل عما لديك وإذا كنت ترى ببصرك نهاراً يتعاقب عليه ليل فلا أقل من أن أحدثك عن نفسي التي ترزح تحت ليل لا ينقضي وظلمة لا تنجلي ولكني أراك داخل قلبي أيها الإنسان فليتك تراني ببصيرتك لا ببصرك.. ليتك. وهكذا أقضي معظم وقتي داخل الحافلة أعاتب بصمتٍ من أشعر بزفير أنفاسهم عن قرب وأحياناً أرى -في ظلمتي- أختي الصغيرة.. انها سلواي في الحياة بعثها الله لي لتداوي ما أغلق عنه بصري بإنارته في بصيرتي. بالأمس عندما كانت تقرأ لي كتاباً سألتني سؤالاً ما عييت قط أمام سواه.. سألتني (لماذا الشر موجود بين البشر)؟ كم أتعبني هذا السؤال الذي ترددت أصداؤه داخل نفسي منذ زمنٍ طويل.. حاولت أن أجيبها بنصف الحقيقة والنصف الآخر كتمته في نفسي لهوله على تلك الصغيرة فقلت لها: يا أختي الناس يبحثون عن دروب الخير فاعتقدوا أن الشر أحد هذه الدروب.. ولا أدري ما إذا صدقت كلامي ولكن كان.. أوه.. ماذا حدث؟ يبدو أن الحافلة قد وقفت فجأة.. وأسمع الركاب كأنهم يهمون بالخروج وأصواتهم تعلو وتزمجر.. وشعرت بأن من جلس بجانبي يحاول أن ينهض هو الآخر فأمسكت بثوبه وسألته عما يحدث فقال إن محركات الحافلة قد توقفت وسائقها لا يدري عن السبب. وسألته قبل أن يتابع خطواته عن الرجل الذي ترك مقعده لي فأجاب بأنه ترك الحافلة في محطة سابقة.. وسألته عن سائق الحافلة فلم أجد جواباً ولا أنفاساً تفيد بوجود إنسان داخل الحافلة فأخذت طريقي باحثاً عن الباب وعصاي تساعدني في ذلك وأخيراً وجدته فشعرت بقدمي تهبطان أرضاً بدت وكأنها جانب الطريق فوقفت حيث قدر لي الوقوف ولكن ماذا أفعل الآن! هل أقف هكذا؟ أين ذهب سائق الحافلة؟ ناديت بأعلى صوتي على الرجل فما من جوابٍ غير صوت ولد صغير طرق أذني وهو يقول (هل من مساعدة أقدمها لك يا عمي)؟ كم سررت بهذا الصوت وصاحبه فسألته عن اسم الشارع فسماه لي.. يا لسوء حظي.. إن مكاني الذي أنشده بعيد كل البعد عن هذا الشارع.. سألته عن المحطة التي أستطيع منها العودة من حيث أتيت فقال إنها على الرصيف الآخر من الشارع.. ولكنه استدرك قائلاً: (لا يا عمي سأقف معك إلى أن تصل حافلة أخرى تأخذك حيث تبغى). وقبل أن أجيبه سمعت صوتاً يزمجر عن بعد وهو يقول: تعال يا ولد فرد الصبي (لحظة يا أبي.. هذا الرجل بحاجة إلى مساعدة). وفجأة سمعت أقداما تهرول تجاهي وصوت يسبقها يقول (تعال هنا أيها الولد العاق.. ألا تخاف من هذا الرجل؟ ولم أشعر إلا بكف الصغير وهي تنسل من كفي سامحك الله أيها الرجل سامحك الله.
|
|
|
| |
|