| |
استرعى انتباهي تبرُّج نسائنا في الخارج .. قراءة في جدلية المعنى والمبنى د. عبد الله بن ناصر الحمود (*)
|
|
يبدو من نافلة القول إن المرأة قد باتت تحتل مساحة شاسعة من مداخلاتنا اللفظية والمكتوبة في معظم منتدياتنا ومنابر اختلافنا المنتشرة في كل مكان على كوكب الأرض. ولأننا كنا كذلك لعقود مضت، ولا نزال، فقد فهم كثير من كيانات الغرب والشرق (من غير المسلمين) تلك التركيبة الذهنية عندنا، فباتت تلك الكيانات تنازلنا عبر قضية المرأة برفع شعارات حقوقها وحرياتها تارة، وتارة أخرى بنقد زيها الإسلامي وقذف حجابها بالعنصرية والتمييز والرمزية الممقوتة. ثم ما نلبث أن نقابل الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، متكئين - في نهاية المطاف - على نصوص نمتلكها نحن، وندين لها بالولاء المطلق، لنقول للغرب أو للشرق: تلك هي حججنا وبراهيننا، فإن قبلتموها، أو دونكم نصوصنا التي لن نحيد عنها. والمعنى الحقيقي الذي نحمله (الذي من المؤسف أننا لم نحسن إيصاله للآخرين حتى الآن) هو أن نساءنا عفيفات شريفات عابدات قانتات، أو أن المعنى هو أننا لا نرضى لهن دون ذلك، حتى لو رضي الآخرون تلك الدونية لنسائهم. ولا شك في أن هذا المعنى هو أجمل وأنبل المعاني التي يمكن أن نبني عليها رؤيتنا لبناتنا وأمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا. لكن هذا المعنى (أمر)، وما يلاك في الساحة من أقوال، وما يؤتى من أفعال (أمر) آخر. إننا لم نتعلم جيدا أن (المعاني ملقاة في الطرقات) ولا أن (العبرة بالمبنى وليست بالمعنى). ومن هنا دخل كثير منا في دهاليز الجدليات المفرغة من كثير من أسس الاتصال الإنساني، واجتر عددا مما حوته أدبيات تاريخنا اللفظي، دون تمحيص أو تدقيق، مهما كانت أهمية وحساسية الموضوع الذي يتحدث أو يكتب عنه، ومهما كان ثقل المرحلة التاريخية التي نمر بها. استرعى انتباهي هذا الأمر، وأنا أشاهد على كثير من قنوات التلفزيون خلال هذه الأيام، ما سمي بتصريحات مفتي المسلمين في استراليا حول تبرُّج المرأة، وما ترتب على هذه (التصريحات) من ردود أفعال. ولن أنساق خلف ما لديّ من تراكمات تقول إننا مستهدفون من لدن الغرب، وأنهم يتحينون الفرص لمهاجمتنا، وأنهم يتدخلون في شؤوننا. كما لن أهتم كثيرا بأدبيات حرية التعبير عن الرأي التي يتشدقون بها، في حين لا يسمحون لنا بالتعبير عن آرائنا. ولكنني سأفتح ملفا ساخنا لن تكفيه مساحة هذا المقال، بل آمل أن يكون نقطة انطلاق لمداخلات كثير من المعنيين بشؤون الفكر والثقافة عند المسلمين، وبأساسيات (اللباقة البنيوية أو البنائية) عندما نتحدث عن معانينا الجميلة. فمع النقص الحاد في الإحصاءات الدقيقة عن أحوال المسلمين في الدول غير الإسلامية، إلا أنه يمكن الاستناد إلى عدد من المصادر التي تقدر أن الأقليات الإسلامية في العالم توجد في (91) دولة، وأنهم يبلغون حوالي (500) مليون نسمة، وأنهم يحققون معدلات تزايد مستمرة. وبقراءة عاجلة لبعض تجارب هذه الأقليات في دول محورية مهمة كأمريكا، وكندا، واستراليا، وبعض دول أوروبا، تدل التجارب والملاحظات الشخصية للأوضاع التنظيمية والتأطيرية لهذه الأقليات على أنها تفتقر إلى كثير من مقومات التعايش الأمثل مع تلك البيئات التي توجد فيها، دون أن تكون عرضة لحالات سلبية كثيرة أبرزها الحالتان التاليتان: الأولى، أن تذوب وتتحلل ثقافيا واجتماعيا في تلك البيئات بالقدر الذي تبتعد فيه تدريجيا عن مخزونها العقدي ودينها الإسلامي. الثانية، أن تتشبث بكثير مما لديها، فتتشكل وفق أنماط فكرية وسلوكيات فعلية ومظهرية رافضة لكثير من مظاهر حياة بيئتها الجديدة، ومتقولبة مع ذاتها لدرجة التغاير الذي تنتفي معه أي بوادر للتعايش والندية والاحترام المتبادل. ومن هنا، لا استغرب أبدا، أن تبدر تصريحات غير محسوبة جيدا في بنائها، مهما اتفقنا على المعنى الذي وراءها، وعلى سلامة النية والقصد. إن المرحلة التي تمر بها أحوالنا الإسلامية في الداخل والخارج، تدعونا لنراجع (بجدية كبيرة) كل مدخراتنا (البنائية) عندما نتحدث عن معانينا الجميلة. ومن المؤسف أن طول بقاء كثير من المسلمين (بل قيادات المسلمين) في المهجر، لم يؤثر إيجابا في خطابنا الإسلامي هناك، ولا على صورتنا عندهم، ولم يسهم في أن تكون لنا نماذج ثقافية اجتماعية وتنظيمية متطورة، غير تلك التي نجلبها من مجتمعاتنا الأصل بكل سماتها (البنائية) المتأخرة جدا، ولم نتعلم منهم جيدا كيف (نبدو) للآخرين، وكيف نقيم مراكزنا ومؤسساتنا، وكيف هو سلوكنا داخلها. إن المراكز الإسلامية، ومدارس أبناء المسلمين (بشكل عام) وفي دول غربية (محورية ومهمة ومتحضرة جدا)، لا يمكنها بأي قدر أن تعبّر عن المعاني الإسلامية الحقيقية، بل أكاد أبلغ حالة التأكد من أنها تسهم كثيرا في تشويه مدخراتنا من المعاني النبيلة والقيم السامية التي تاهت فيما بيننا وداخل مجتمعاتنا، فنقلنا حالة (التيه) تلك، خارج حدودنا بكل تداعياتها الفئوية والطائفية، والمذهبية، وبكل مآسيها من مظاهر التردي في الشكل والمبنى. إن المرحلة الراهنة تتطلب فتح ملف وجودنا في بلاد الغرب (شكلا ومظهرا وتنظيما وسلوكا)، ومراجعته في ظل أرقى أنماط المعيشة الإنسانية هناك، رغم كل التحديات والصعوبات التي أفصحت عنها كثيرا منظمة بحجم منظمة المؤتمر الإسلامي. وحتى يأذن الله بحال جديد، علينا أن نتعلم من الغرب كيف استطاعوا - في معظم الحالات - أن يكون منتجهم الثقافي في أبهى حلة، رغم أنهم لا يملكون ما نملك من معاني ومدخرات.
(*) نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
alhumoodmail@yahoo.com |
|
|
| |
|