في سيرة بعض علماء السلف من دقائق الورع، ودلائل تقوى الله والخوف منه سبحانه وتعالى ما يجعل الإنسان يقف أمامه معجباً متعجباً.
ومع أن ورع الإنسان الذي يجعله يأخذ نفسه بالجد والشدّة مسألة شخصية، إلا أن ما ورد عن بعض السلف من ذلك يجعلنا نراجع أنفسنا في كثيرٍ من مظاهر التقصير التي نعاني منها.
التقى الفضيل بن عياض بسفيان الثوري، وجرى بينهما حديث طويل في الزهد، والتقوى، والعمل الصالح، واسترسل حديثهما في لقائهما هذا حتى أدخل على قلبيهما من السرور ما جعل سفيان الثوري يقول لصاحبه: أرأيت أحسن من هذا الذي جرى بيننا حديثاً يشرح الصدر؟، وسكت الفضيل قليلاً ثم قال: ويحك يا سفيان ألا تخشى أن يكون إعجابنا بما قلنا دليلاً على حرص كل واحدٍ منا على أن يسمع منه صاحبه ما يسرُّ ويعجب، ألا تخشى على سلامة النيَّة في هذا الأمر؟؟ ولم يجد سفيان الثوري إلا الصمت المفعم بالتفكير أمام هذه التساؤلات المثيرة من صاحبه، فقد وجد نفسه أمام صورة من صور الورع التي قلَّ أن يوجد لها مثيل عند الناس، ولعه الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) قد برز جليَّاً أمام عينيه في تلك اللحظة، بل لعله تذكّر ما ورد في الحديث الآخر عن أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة، وهم عالمٌ، وشهيد، ومنفق متصدق، فالعالم قصد بعلمه الدنيا والسُّمعة فيها ولم يقصد وجه الله فحبط عمله، والشهيد قصد بجهاده أن يقال شجاع فحبط عمله، والمتصدق كذلك وهنا ترقرقت عيناه بالدموع.
هذا الموقف بين هذين العابدين الزاهدين العالمين؛ الفضيل والثوري، يجعلنا ننظر إلى ما دار بينهما من ناحيتين:
1- الورع، والخوف من الله عز وجل، ومراقبة النفس، والحرص على إخلاص النية لله عز وجل، وتعهّد ذلك دائماً، وهذا مطلب مهم منا جميعاً، وهو سهل التطبيق على كل مسلمٍ مخلصٍ لرّبه، متَّبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2- المبالغة في هذه المواقف التي قد تحوِّل الأمر إلى قلقٍ دائمٍ، وقد تصيب نفوس بعض الناس بالإحباط، وربما دفعت بعضهم إلى إساءة الظنِّ بربِّه عز وجل، وفي هذا هلاك للإنسان، لأن إحسان الظن بالله واجبٌ وحقٌّ ثابت لا يجوز التهاون به، ولربما دفع ذلك إلى (الوسواس) الذي يجعل الإنسان مضطرباً خائفاً على كل خيرٍ يقدِّمه في الحياة أن يضيع أجره، وأن يتحوَّل إلى خطيئةٍ يحاسب عليها عند ربه.
وهنا يظهر لنا الأثر الإيجابي للاعتدال عند الإنسان المسلم، ومتابعة النفس دائماً لدفعها إلى إخلاص العمل لله عز وجل، وعدم قياس النفس على حالات بعض أهل الورع الكبير، والزُّهد الموغل، والنظر إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أحسن الظنَّ بالمسلمين، وملأ قلوبهم بالأمل والتفاؤل ونصحهم بملازمة الدعاء الشهير (يامقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك)، وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام (يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا) وأمر بأن يحسن المسلم الظنَّ بربه سبحانه وتعالى.
إشارة: