| |
«التحضير» عند المعلمين: قولب التدريس.. جمّد التفكير.. وألغى الإبداع
|
|
لم يحظَ موضوع تربوي بمزيد جدل مثلما حظي به موضوع التحضير الكتابي عند المعلمين والمعلمات؛ فقد تضاربت فيه الأقوال وتعارضت فيه الآراء، إلا أن كثيرا من الجدل الذي يثار حوله بعيد كل البُعد عن النظرة الموضوعية والعلمية. لقد ترددتُ كثيرا قبل أن أدلي بدلوي على الملأ في هذا الموضوع الذي حُسم في كثير من الأنظمة التربوية ولم يُحسم للأسف الشديد عندنا. ومهما كثرت الآراء وتعددت وتنوعت إلا أنه لا يمكن أن يقبل ذو لب ما وصلت إليه تداعيات هذا التحضير الكتابي الذي ظل دهرا قضية جدلية يختلف فيها كل اثنين. ولقد كنت منذ سنين ممن يطالب بتطوير التحضير الكتابي لا إلغائه، كما يرى البعض من الذين يعتبرون أن التحضير الكتابي يثقل كاهل المعلم دونما فائدة تذكر بزعمهم أن التحضير هو فقط للمدير وللمشرف التربوي وللمديرة وللموجهة التربوية، غائبا عن بالهم أن للتحضير الكتابي هدفا علميا تقتضيه عملية التدريس؛ إذ إن التحضير لا بد أن تسبقه خطة، وما التحضير إلا تفصيل لهذه الخطة التي يقتضيها علم التدريس الذي ينظر، إلا أن التدريس ما هو إلا ترجمة لخطة اشتقت من عدة عوامل أبرزها خصائص المتعلمين وطبيعتهم ومستوى المادة العلمية وعلاقتها بالبنية المعرفية للعلم المراد تدريسه. ومن هنا يمكن القول إن التدريس ليس عملية عشوائية أو صورة نمطية مكررة تناسب جميع الأعمار ومختلف البيئات والظروف. إن التدريس عملية منظمة ومخططة يقوم المعلم بأدائها بوعي منه وإدراك وليس بتقليد وتشبه. إن الذي دعاني إلى طرح هذه الرؤية التي قد يختلف معي في بعض جوانبها كثيرون، من الذين ينظرون إلى الأمور من زوايا منفردة، هو ما أصبح اليوم شبه ظاهرة؛ إذ يعمد كثير من المعلمين والمعلمات إلى انتحال جهد الآخرين وذلك حينما يقومون بشراء التحاضير الجاهزة والمقولبة من المكتبات ومراكز التصوير؛ إذ ظهرت هذه الأيام تحاضير للمواد الدراسية تباع في الأسواق بمبالغ غير معقولة فتهافت على شرائها المعلمون والمعلمات الذين ينظرون إلى أن التحضير الكتابي ما هو إلا نوع من الديكور ونوع من المتطلبات التي يؤدونها من غير قناعة منهم بها ولا رضا عن أهدافها. إنك لتعجب من هذه التحاضير التي تباع، والعجب كل العجب من إقبال المعلمين والمعلمات على شراء هذه القوالب الجامدة التي تعد من جهد ومجهود الغير وتقديمها إلى المديرين والمشرفين، حتى أن الكثير منهم لم يقرأها بل سلمها إلى المدير وهو لا يعلم منها إلا أنها تحاضير للمواد التي يدرسها، وإن تعجب فاعجب من مصادرها، فمصادرها متعددة، فهي خليط من مواقع إلكترونية وبعضها اجتهادات معلمين قد يكونون متميزين في بعض جوانب الأداء التعليمي ولكنهم بعيدون كل البُعد من الأصول العلمية لتخطيط التدريس، بل من أعجب ما رأيت من هذه التحاضير الاستهلاكية التي تباع تحاضير قام بإعدادها وتجميعها طالب يدرس في المرحلة الثانوية، بل إن كثيرا منها يقوم بإعدادها معلم الكوكتيل، فهو يحضر في كل التخصصات ويبيعها بعدما يطعمها بكلمتين من قاموس التربية التي قد يخفى على كثير من المعلمين والمعلمات معناها ثم يختار لها تنسيقا جيدا في جهاز الحاسب ويسحبها على قرص مرن ثم يبيع تحضير المادة الواحدة بثلاثين أو خمسين ريالاً. لقد فشت هذه الظاهرة حتى لم يسلم منها أحد من المعلمين والمعلمات، فقد عملت استفتاء على شريحة كبيرة من الذين أعرفهم من المعلمين والمعلمات فوجدت أن الغالبية ابتلوا بهذه الظاهرة النشاز التي قولبت التدريس وجمدت التفكير وألغت الإبداع. لقد عملت إحصائية تقريبية افتراضية فوجدت أن عدد الذين يقومون بشراء هذه التحاضير لا يقلون عن مائة وخمسين ألف معلم ومعلمة، ومتوسط ما يدفع المعلم أو المعلمة على هذه التحاضير في السنة الواحدة مائتي ريال، فيكون مجمل ما يدفعه المعلمون والمعلمات على هذه الخدعة ثلاثين مليون ريال في السنة الواحدة. إن هذا المبلغ الضخم الذي يعتبر هدرا يضيع بدون فائدة ممكن أن يموّن مشاريع تربوية عديدة مثل مشروع دراسة البديل المناسب للتحضير الكتابي، وذلك من خلال تكوين لجان لدراسة البدائل المناسبة التي تحقق الهدف الأساس من التحضير الكتابي، ومن ذلك الاطلاع على تجارب الآخرين من الدول التي تطورت في هذا الاتجاه وحققت نجاحا وحلا لهذه القضية الجدلية. ويمكن الإفادة من هذا المبلغ الضخم في تدريب المعلمين على آلية التحضير المناسبة وفق الأسلوب العلمي بحيث يكون بديلا مما يسوقه الرعاع من تحاضير مغلوطة مليئة بالتناقضات العجيبة. ومع هذا كله فلا أرمي اللوم على المعلمين المستفيدين من هذه التحاضير ولا ألوم المحلات التي تسوق لهذه التحاضير، ولكن اللوم مشترك للجميع، فلا المختصون بادروا بوضع بدائل لهذه التحاضير ولا الجهات التعليمية كانت تعليماتها واضحة وإجرائية بشأن التحضير الكتابي، ولا المعلمون والمعلمات وجدوا فروقاً تحسب لهم بين هذه التحاضير المبيعة وبين ما يكتبونه بأيديهم ومن بنات أفكارهم. وجملة القول: نحن بحاجة إلى الوقوف ضد هذه الظاهرة التي خدعتنا وخدعنا أنفسنا بها؛ حتى لا نهدر أموال المعلمين والمعلمات، وحتى نضع حدا لهذه التجاوزات التي دخلت على الميدان التربوي وبدأ الصغير والكبير يفتي فيها وبدأ العمال يسوقون لها. وكلنا أمل أن تناقَش هذه القضية بموضوعية وحيادية، وذلك من جميع الأطراف المعنية كالجهات العلمية والجهات التنظيمية والجهات التنفيذية التي يهمها مثل هذا الموضوع.. ولعلنا نجد حلا ناجعاً ومقنعاً لمثل هذا الموضوع الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
محمد بن شديد البشري -متخصص في المناهج وطرق التدريس
albashri@yahoo.com |
|
|
| |
|