| |
صوت من بعيد سعيد البرغوثي
|
|
يستذكرون يوم نكبتهم مع عودة منتصف أيار- مايو من كل عام.. بينما (هم) يحتفلون بقيام دولتهم. الحاجة أمينة التي هُجرت من قريتها قبل خمسين عاماً فقدت ذاكرتها القريبة وكل ما يتصل بها، بينما استيقظت ذاكرتها البعيدة على نحو شديد الصفاء، فراحت تسرد لأحفادها والمحيطين بها قصص تلك الأيام بكل حكاياتها الحميمة والمؤلمة.. الفرحة والحزينة وكأنها تعيشها اليوم. وكأن شيئاً ما بداخلها جعلها تصحو كل يوم مع بزوغ الفجر لتصلي ركعتين وتحضر زوادة بسيطة، بضع حبات من الزيتون وقطعة خبز لتسير بهمة متكئة على عكازها عبر الطريق الترابي الذي تعرفه جيداً نحو قريتها التي هدمت منذ خمسين عاماً غير هيابة، لا تلوي على شيء، وعلى مشارف القرية كانت ترتاح تحت شجرة تين عجوز ضخمة الوحيدة المتبقية من أطلال قريتها. هناك كانت ذكريات الطفولة والصبا المختزنة في تلافيف ذاكرتها تشع وتزهر وتتلون.. فتشحذ عزيمتها وتنهض لتطوف في أرجاء المكان الذي كان يوماً ما قريتها: هنا من الناحية الشمالية يقع بيت المختار.. وهناك بيت أحمد الحسن وهنا حاكورة عمي فارس.. وهنا موقع بيتنا.. وعبر الصمت الذي يلف المكان كانت تنهض البيوت والحواكير والأشجار والأزهار، البشر والحيوانات وتضج الحياة في ذاكرة الحاجة أمينة وكأن القيامة قامت! تحولت أيامها المحيطة البائسة إلى سعادة عامرة عبر مشوارها اليومي الطويل، وعلى أرض قريتها كانت في كل يوم، تلم الحجارة من هنا وهناك وترصفها لتعيد رسم معالم القرية وبيوتها مداخلها ومخارجها.. وعندما تتعب كانت تستظل شجرة التين وتفتح زوادتها، وتأكل حبات الزيتون لتعود من جديد إلى عملها.. تماهي الجيران والأقارب مع الحاجة أمينة مع إيقاعها اليومي وأخذوا يزورونها هناك وكانت الخطيئة الكبرى عندما يقوم أحد زوارها أو أحفادها بعبور المكان فوق الحجارة التي رصفتها فكانت تحتج وتصرخ بهم (الناس يدخلون البيوت من أبوابها) ولا تستعيد رضاها إلا حينما يعود من أخطأ الطريق ليدخل من الممرات التي رسمتها.. عندئذ يشرق وجهها وكأن ما رصفته من الحجارة يشكل في مخيالها بيوت القرية بأبوابها ونوافذها وناسها.. أحد لا يعلم ما إذا كانت الحاجة أمينة تمر على البيوت وتقرع الأبواب وتحيي أهلها وتتبادل معهم الأحاديث وتدعوهم إلى منزلها لقهوة الصباح أو سمر الأمسيات. أما (هم) فكانوا يراقبونها وكأنما أفزعهم شبح القرية وقرروا الاحتفال هناك في ذكرى قيام دولتهم. اجتثوا شجرة التين وأزالوا معالم القرية التي وصفتها الحاجة أمينة وبنوا على أطلالها سرادق لاحتفالهم. في مشوارها الأخير رأت الحاجة أمينة ما فعلته الأيدي الهمجية وغادرت محبطة منكسرة. أمضى الناس ليلتهم ساهرين مع الصوت الواهن للحاجة أمنية، يتردد في الشوارع والأزقة. (هنّي. بيهدموا واحنا بنبني.. هنّي بيهدموا واحنا بنيني..) ومع الصباح كانت قد فارقت الحياة.. لقد هدموا قريتها مرة ثانية. يروي الأطفال لأهاليهم أنهم يستيقظون فجر كل يوم على صوت مقبل من بعيد.. (هنّى بيهدموا.. وإحنا بنبني).
|
|
|
| |
|