* مكة المكرمة - خاص بـ(الجزيرة):
أكد فضيلة الشيخ محمود بن محمد المختار الشنقيطي عضو مركز الدعوة والإرشاد بمكة المكرمة أن ظاهرة صيام البعض شهر رمضان المبارك نهاراً وترك الحبل على الغارب ليلا موجودة في جميع أنحاء العالم الاسلامي، وهي ظاهرة خطيرة، وعلى الدعاة والمربين التوعية بخطورة الأمر.
وقال الشيخ الشنقيطي: إن على المسلم أن يستشعر حرمة عبادة الصوم ومعانيه في النهار، وإذا علم الحِكَم من الصوم فإنه سوف يقلع عن هذه المحرمات التي يقع فيها ليلاً. وطالب الشنقيطي كل مسلم بأن يكون له برنامج إيماني روحاني يجتهد فيه خلال هذا الشهر الكريم.جاء ذلك في حوار (الجزيرة) مع الشيخ محمود الشنقيطي.. وفيما يلي نصه:
* هل المسلم يصوم رمضان نهاراً ثم يترك الحبل على الغارب لنفسه ليلاً؟
- نعم، هذه الظاهرة موجودة بين إخواننا المسلمين في جميع أنحاء العالم الاسلامي، وهي ظاهرة الاهتمام بالصوم عن المحرمات والمفطرات نهارا أكثر منها في ليالي رمضان، لكن أحب دائما أن يكون حديث الداعية جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة.
ولا شك أن ظاهرة الصوم نهارا والاهتمام بهجر المفطرات والمعاصي حال الصوم خير ومن البر، وهي وصول العبد إلى مستوى جيد في العبادة وفيها دلائل ومؤشرات لعلنا نجعلها في نقاط:
1- أن هذا المسلم استشعر حرمة عبادة الصوم في النهار وأن من معاني الصيام صيام الجوارح عن الآثام، وقد التزم به في النهار فهنيئا له هذا الانتصار على الشيطان في نهار رمضان وهذه البطولة والشجاعة.
2- أن المسلم الذي يقتصر على الصوم عن المحرمات في النهار فقط أفضل حالا من المسلم الذي ينتهك الحرمة نهارا وليلا.
3- أن من السهولة على هذا المسلم إذا علم أن الحكمة من الصيام عن المحرمات أثناء النهار حال الصيام هو تعويده عن الإمساك والصيام عنها نهاراً، فيسهل عليه وقد جرب تركها نهارا أن يتركها ليلا ويكون تركه لها نهارا أعظم شاهد ودليل على قدرته على السيطرة على نفسه وجوارحه وتزكية نفسه.
4- ربما فات هذا الصائم الملتزم نهارا أن الصيام عن المحرمات ليلا دليل على صحة واستقامة العبد نهارا، أو دليل على وصوله بعبادة الصيام إلى تزكية نفسه وتطهيرها من الذنوب ليلا.
فالذي دعاك وأجبت دعوته وتركت لأجله المعاصي في نهار رمضان حال الصيام هو الذي دعاك لتركها ليلا، والذي أحب منك ترك المعاصي والمفطرات نهارا وأجبته، هو الذي يحب منك أن تتركها لأجله ليلاً.
5- ما رأيك أخي المسلم الصائم نهارا والمفرط ليلا أن من التوفيق الحرص تمام الحرص على المحافظة على صوم ليالي رمضان عن المحرمات كنهارها لشرفها وفضلها؛ فليلة القدر إنما تكون في ليالي رمضان، وتهيؤ الناس للتراويح والعبادة في الليل يعين على استغلال وحفظ ليالي رمضان من المعاصي، وشرف الزمان وهو شهر رمضان ونزول الله كل ليلة ومناداته وبسطه يده لأهل التوبة وكثرة عتقاء الله في هذا الشهر من النار، وكثرة التالين والمتدبرين لكتاب الله، والمقبلين على العبادات في ليالي رمضان.. كل هذه دواعي لتطهير ليالي هذا الشهر من المعاصي والسيئات.
6- لو تذكر المسلم الذي هذا حاله ان الغاية من الصيام هي وصول الإنسان إلى مقام الخشية والتقوى وهي تمنعه من المعصية نهار رمضان وليله لدفعه ذلك إلى مواصلة الليل بالنهار فيما يرضي الله عز وجل قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(183) سورة البقرة.
فقوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تعليل لفرضية الصيام؛ ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العظمى، وهي تقوى الله التي سأل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله عنه عن معناها ومفهومها؟ فقال يا أمير المؤمنين: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى. قال: فما صنعت؟ قال: شمرت واجتهدت.. أي اجتهدت في توقي الشوك والابتعاد عنه، قال أبي: فذلك التقوى.
إذن التقوى: حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة، وحذر دائم، وتوق لأشواك الطريق، طريق الحياة الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الفتن والموبقات، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملكه إجابة الرجاء، وأشواك الخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا، وعشرات غيرها من الأشواك.
إنه فرصة عظيمة لتغيير الأخلاق القبيحة والعادات السيئة (فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم)، و(من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).. (تدرب بها المسلم المؤمن على تقوية الإرادة في الوقوف عند حدود ربه في كل شيء، والتسليم لحكمه في كل شيء، وتنفيذ أوامره وشريعته في كل شيء، وترك ما يضره في دينه أو دنياه أو بدنه من كل شيء، ليضبط جوارحه وأحاسيسه جميعا عن كل ما لا ينبغي بتدربه الكامل في هذا الشهر المبارك، ليحصل على تقوى الله في كل وقت وحين، وفي أي حال ومكان، وذلك إذا اجتهد على التحفظ في هذه المدرسة الرحمانية بمواصلة الليل مع النهار على ترك كل إثم وقبيح، وضبط جوارحه كلها عما لا يجوز فعله.. لينجح من هذه المدرسة حقاً، ويخرج ظافراً من جهاده لنفسه، موفراً مواهبه الانسانية وطاقاته المادية والمعنوية لجهاد أعدائه).
* لماذا يكون البعض في النهار ملتزمين ثم يتغير حالهم ليلا؟
- أولاً: ربما لأن إخواننا هؤلاء لم يجعلوا لأنفسهم برنامجا ايمانيا روحانيا تزكو به نفوسهم يملأ أوقاتهم نهارا وليلا، فالمؤمن الموفق الذي أراد الله به خيرا، وقذف في قلبه همّ الآخرة، له برنامج تعبدي خاص في رمضان يختلف عن غيره من أوقات العام، لا يبقى له وقت للمباحات فكيف بالمحرمات؛ لأنه علم أنه مطالب بالاجتهاد فيه أكثر من غيره.. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان فيقول: (جاءكم شهر رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حُرم فيه رحمة الله) (رواه الطبراني في الكبير).
حين يعلم المسلم الموفق لهمِّ الآخرة أن من خصائص هذا الشهر (لله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) كما ثبت عند الإمام البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم، رحمة الله على الجميع.
وقد شاهدنا من إخواننا المسلمين في شهر رمضان من ذلك الكثير، البعض له أكثر من ختمة من القرآن لأنه يعلم أن شهر رمضان الذي أنزل الله فيه القرآن شهر تعهد وتدارس للقرآن، شاهدنا مَنْ يحرص بعد صلاة التراويح على إلزام نفسه بورد ومقدار من القرآن يشغله عن المباحات فكيف بالمعاصي والمحرمات، والبعض في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعهد الأسواق والملاعب وتجمعات الناس لتذكيرهم لأن الناس مقبلون، ونفوسهم مهما كانت دواعي الغفلة مهيأة مستعدة لقبول النصح والهداية والخير، البعض حببت إليه الصلاة، فله ورد يوميا من النوافل يملأ بها وقته نهارا وليلا في أوقات الصلاة، من الناس من شغله الشاغل العمل الخيري وتوصيل الصدقات للأيتام والأرامل والمساكين والمحتاجين وسد حاجتهم في هذا الشهر، بعضهم يضرب في كل غنيمة بسهم، فيجمع بين التلاوة والصلاة ومحاسبة وتزكية نفسه والصدقة وبين الدعوة والأمر بالمعروف وصلة الرحم والعبادات المتعددة بما يشغل وقته ليلا ونهاراً.
ثانيا: من وقف على شيء من أخبار السلف في تلذذهم وحياتهم وعبادتهم وأقوالهم في مناجاة الله والوقوف والصلاة بين يديه عظم عنده وقت الليل وعز عليه أن يذهب سدى.. فمن ذلك:
قول سعيد بن المسيب رحمه الله: إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجهه نورا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إني لأحب هذا الرجل!!.
- ومن ذلك قول الحسن البصري رحمه الله حين قيل له: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره.
قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل، فإن وقوفكم بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف.
ومن ذلك أن الفضيل بن عياض رحمه الله أخذ بيد الحسين بن زياد رحمه الله، فقال له: يا حسين: ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب: كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني؟!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنّهم الليل غداً أقر عيون أحبائي في جناتي.
ثالثاً: يعجبني قول القائل: (لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فلم يبق للعاصي عذر، يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المجتهدين اسجدي لربك واركعي، يا عيون المتهجدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس أقلعي، يا بروق الأشواق للعشاق المعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام فما منكم إلا من دعي، ويا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما دعي).
* هل الفضائيات والمسلسلات والسهرات الرمضانية والمقاهي لها دور كعناصر مغرية للبعض ليلاً؟
- إذا علم العبد وأدرك فضل الله عليه بإدراك هذا الشهر وبلوغه شكر الله باستغلال نهاره وليله في العبادات على أنواعها حسب ما تزكو به نفسه، عبادة العمل والكد وتحصيل العيش والضرب في الأرض ابتغاء فضل الله ورزقه، وإذا علم أن الله عز وجل يغار، وغيرة الله أن تنتهك حرماته، ومن حرماته غشيان وإتيان مجالس اللهو السهر المحرم ضعف عنده داعي الهوى لإجابة مشاهدة هذه القنوات والمسلسلات والمشي إلى هذه المقاهي.. وكثير والحمد لله من المبتلين بهذه المجالس والمشاهدات تضعف عندهم الرغبة لاستنارة قلوبهم بدواعي الخير في هذا الشهر الكريم، وتلذذ جوارحهم بعباداته، ورؤيتهم جموع أهل الآخرة منصرفة لرفع أرصدتها من الحسنات والأجور المضاعفة فتضعف عندهم الرغبة لتضييع الأوقات في هذه الصوارف والملهيات والمغريات.
* حملات التوعية والإرشاد لماذا تغيب عن الأسواق وأماكن التجمعات ليلاً؟
- ما كان ينبغي لهذه الهيئات والحملات التوعوية الإرشادية أن تغيب في موسم إقبال الناس على الهداية والخير وضعف دواعي الشهوة والإفساد، كيف وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن هناك حدثا عظيما وكبيرا يحصل في الملأ الأعلى إذا جاء شهر رمضان ألا وهو فتح أبواب الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء مضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين). وهي كذلك بحمد الله لكن قد يلاحظ هذا الغياب في بعض الأماكن ولعله لأمور:
1- حرص كثير من القائمين على هذه العبادات المتعددة النفع ومضاعفة الأجور بالمشاركة في العبادات الليلة الجماعية، كقيام رمضان في المساجد، وهذا الحرص في محله فلو نظم هؤلاء أوقاتهم بحيث يكون قيامه في أول الليل أو آخره دون أن يؤثر على عملهم الدعوي الارشادي لكان خيراً كثيراً للأمة وللناس.
2- إذا حصل صعوبة بعد اجتهاد منه أن يجمع بين صلاة التراويح وقيام الليل ولم يمكنه أن يجمع بين الأمرين فليرض بالعبادة المتعدي نفعها للناس وهي الدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله تعالى أكرم بأن يعطي هذا العبد أجر قيامه إذا علم حرصه عليه ونيته وتحسره كما في نصوص الكتاب والسنة أن المسلم إذا فاتته طاعة مع حرصه عليها بسبب خارج عن إرادته أن له أجرها.
|