(فكرامة الأمة هي القيمة التي يقدّر بشأنها حمل راية الحرب أو الركون إلى أفياء السلام)
***
إبراهيم التركي
***
إجمالاً يمكن وصف العلاقة بين السعودية وأمريكا بالجيدة منذ المؤسس التوحيد الملك عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، وإن ظلت قضية فلسطين هي الحجر الذي قد يعكر صفو تلك العلاقة حسب موقف الرئيس الأمريكي من تلك القضية. وقد كان مؤسس التوحيد - رحمه الله - متمسكا بهذه القضية وحق الفلسطينيين في الأرض وعروبة فلسطين، ولا يترك لقاء مع مسؤول غربي عامة وأمريكي خاصة ولا مناسبة عالمية إلا ويثير تلك القضية ويؤكد عليها ويدعمها بكل الوسائل، ويتضح ذلك من خلال الرسالة التي أرسلها مؤسس التوحيد - رحمه الله - إلى روزفلت سنة 1945م يقول فيها (... إنها لفرصة سعيدة أنتهزها؛ لأشاطركم السرور في انتصار المبادئ التي أُعلنت الحرب من أجل نصرتها، ولأذكر الشخصيات العظيمة التي بيدها بعد الله، تصريف مقاليد نظام العالم، بحق صريح قائم منذ عرف التاريخ ويراد الآن القضاء على هذا الحق بظلم لم يسجل له التاريخ مثيلا ولا نظيرا، ذلك هو حق العرب في فلسطين، الذي يريد دعاة الصهيونية غمطه وإزالته بشتى وسائلهم التي اخترعوها وبيّتوها، وعملوا لها في أنحاء العالم، بالدعايات الكاذبة، وعملوا في فلسطين من المظالم، وأعدوا للعدوان على العرب ما أعدوا مما علم بعضه الناس، وبقي الكثير منه تحت طي الخفاء، وهم يعدون العدة، لخلق شكل نازي فاشيستي، بين سمع الديمقراطية وبصرها... ولذلك أردت بيان حق العرب في فلسطين، على حقيقته، لدحض الحجج الواهية التي تدعيها هذه الشرذمة من اليهودية الصهيونية، دفعا لعدوانهم، وبيانا للحقائق حتى يكون الحلفاء على علم كامل بحق العرب في بلادهم وبلاد آبائهم وأجدادهم.... عبدالعزيز آل سعود) - شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز/ خير الدين الزركلي، ج 4 ص 1189.
وهي ذات الرسالة التي أرسلها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - إلى رئيس وزراء بريطانيا تشرشل.
وكان رد السيد روزفلت (صديقي الطيب العظيم، لقد تسلمت رسالة جلالتكم... التي أشرتم فيها إلى قضية فلسطين، وإلى المصالح الدائمة للعرب، في استمرار كل ما يؤثر في رقي وتحسين تلك البلاد... وتذكرون جلالتكم أنني في مناسبات سابقة، أخبرتكم بموقف الحكومة الأمريكية تجاه فلسطين، وأوضحت رغبتنا في أنه لن يتخذ أي قرار يختص بالوضع الأساسي في تلك البلاد من دون التشاور مع كل من العرب واليهود، ولا شك أن جلالتكم تذكرون أيضا أنني في خلال محادثاتنا الأخيرة أكدت لكم أنني لن أعمل شيئا بصفتي رئيسا للسلطة التنفذية في هذه الحكومة يمكن أن يضر بالعرب... صديقكم الطيب الحميم فرانكلين د. روزفلت) - المرجع السابق ص 1196.
ومن يتأمل رسالة رد السيد روزفلت على الملك عبدالعزيز - رحمه الله - سيدرك منهج الإدارة الأمريكية منذ البدء نحو القضية الفلسطينية، تلك السياسية المراوغة التي تبتعد دوما عن منطقة الاعتراف الكامل بعروبة فلسطين، والإيحاء اللامباشر بحق اليهود في تلك الأرض مناصفة مع العرب، وهي صياغة سياسية لم تتغير سوى على مستوى التقديم والتأخير!
وظلت مواقف الحكومة السعودية تسير على النهج الذي رسّخه مؤسس التوحيد حول القضايا العربية وخاصة فلسطين، ورفض أي مراوغة من قبل القوى العالمية العظمى حول هذه القضية بما فيها الإدارة الأمريكية، وهو منهج ثابت ومتجذّر لا تسمح الإدارة السعودية السياسية أن يتغير مضمونه أو يتحرك عن مركزه أو يتعرض للمفاوضات أو المزايدات، كما أنه منهج لا يخضع للموقف السياسي الذي قد يتعرض ثباته للضغط والقرع والشد، أو للمنطق الذي يخضع لتطورات السوق السياسية وما تنتجه من هزائم وانتصارات، إنه منهج لا ينطلق من فكرة تحصيل حاصل والتزام جبري بتنفيذ تعيين يثقل كاهل مسؤولية الموقف المحلي، بل منهج ينطلق من مبدأ الواجب الديني والأمانة التاريخية اللذين رسخهما مؤسس التوحيد، وهما مبدأ وأمانة لا تتنازل الحكومة السعودية عنهما، وذلكم ما يفسر سبب غضب الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما كان وليا للعهد من موقف السيد جورج بوش الابن والإدارة الأمريكية من القضية الفلسطينية والتقاعس عن متابعة الدور في دفع القضية للأمام.. هذا التقاعس الذي أعطى فرصة لإسرائيل زمن شارون أن تقود حركة منظمة لتصفية المقاومة الفلسطينية على المستوى السياسي والشعبي؛ إذ كان الملك عبدالله (يعلّق آمالاً واسعة على الرئيس الجديد انطلاقا من علاقته الوثيقة بوالده، واعتقادا أن الرئيس الجمهوري الجديد، الذي حاربه اللوبي الصهيوني ووقف مع خصمه، سوف يتعاطف مع العرب أكثر من أي رئيس ديمقراطي) - أمريكا والسعودية ص81.
لكن ما لبثت آمال الحكومة السعودية في دور الرئيس الأمريكي الجديد، في المتابعة لدفع قضية الشرق الأوسط نحو منطقة الضوء والانفراج، أن تتكسر فوق صخرة منهج التحيّز السياسي لإسرائيل ضد الفلسطينيين، التحيّز الذي يعلله القصيبي باللامبالاة من الرئيس الأمريكي الجديد نحو القضية الفلسطينية، والذي وضعها وفق تلك اللا مبالاة في خانة القضية (الثانوية)، وهو ما يجعلنا نسأل: هل تهميش القضية الفلسطينية من قبل السيد جورج بوش الابن كان ناتج اللامبالاة التي زعمها السيد بوش، وفق ما أثبته المنطق الواقعي المروّج، أم اللامبالاة تحمل في مضمونها إتاحة فرصة لإسرائيل لتحقيق مشروعها الديني؟ أما أنها كما يصفها التركي مجرد تخبطات سياسية؟ (الولايات المتحدة - زمن المحافظين الجدد - تعيش تخبطا سياسيا ندفع نحن ثمنه..!) - كيلا يؤرخ أيلول، ص113- وما بين اللامبالاة والتخبط، يحدد القصيبي ضمن جدولة ثلاثية مسوغات ذلك:
(أولا: رأى الرئيس الجديد أن والده أخطأ عندما اهتم بالشؤون الخارجية على حساب الأمور الداخلية، وعندما ترك اهتمامه بالشرق الأوسط يقوده إلى صدام عنيف مع اللوبي الإسرائيلي كان من أسباب سقوطه في الانتخابات.
ثانيا: رأى الرئيس الجديد أن سلفه الرئيس بيل كلينتون أنفق الكثير من الجهد والوقت في معالجة قضية الشرق الأوسط بنفسه وعقد مؤتمر قمة بعد مؤتمر قمة برعايته، وكانت النتيجة الوحيدة تبديد هيبة الرئاسة الأمريكية.
ثالثا: كان الرئيس الجديد مقتنعا أن الرئيس ياسر عرفات رجل لا يمكن الوثوق به أو الاطمئنان إلى وعوده) - أمريكا والسعودية ص77.
ويمكننا إيجاد تأويل لتفسير ذلك المنطق الواقعي الذي استند إليه السيد دبليو بوش لطرد القضية الفلسطينية من مركزية الأجندة السياسية الأمريكية إلى الهامش، وفق أمرين:
أولا:- التفكير النفعي للسياسة الأمريكية الجديدة، بما يعني البُعد عن التعامل مع الرهانات القابلة للخسارة، وهو تفكير منطقي لرجل قادم من مؤسسة اقتصادية.. تقسم الأشياء ومعطياتها إلى ربح وخسارة، منهج اقتصادي تعامل به السيد بوش حتى على المستوى السياسي (معنا وضدنا/ خير وشر/ حب وكره)، كلها ثنائيات تعبر في النهاية عن لغة الربح والخسارة، ولذا لا نندهش عندما يقوّم السيد بوش الابن الموقف السياسي وفق النتيجة النهائية: ماذا سأستفيد منه، وماذا سيضيف لي؛ لأن الحسابات السياسية لا تؤمن بالحق والضمير، بل بالرهانات المؤكدة الربح. وهذا المنطق بدوره هو الذي يدخل قضية الشرق الأوسط منطقة الأزمة، فالقضية والعرب رهان أول، وإسرائيل/ اليهود والقضية رهان ثان، والإدارة الأمريكية تقف بين الرهانين، وعليها أن تختار الرهان الذي ستقف معه وتناصره، والاختيار الصريح مأزق لا تغامر الإدارة الأمريكية بالإعلان به، وعندما حاول كل من السيد جورج بوش الأب، والسيد كلينتون أن يتحررا من برتوكولات السياسة الأمريكية فيما يتعلق بقضية الشرق الأوسط، حدث لهما ما حدث، الأول تعرض لصدام عنيف مع قوة اللوبي الإسرائيلي فهُزم، إضافة إلى أن الأب خرج من محور القدوة للابن، هذا الخروج يؤكده إجابة السيد جورج بوش الابن على سؤال لصحفي (إذا كان والده يوافق على الحرب على العراق، قال: إنه الأب الذي من غير المناسب التماس القوة منه، هناك أب أعلى أحتكم إليه) - الجبروت والجبار، مادلين أولبرايت ص 151.
والثاني خرج من البيت الأبيض بفضيحة لن ينساها الشعب والتاريخ الأمريكي أبدا، وهما درسان بلا شك تعلّم السيد دبليو بوش واستفاد منهما في صياغة المنطق الواقعي الذي يدير من خلاله الرهانات المطروحة فوق طاولته، فتهميش الرهان الأضعف (العرب وقضيتهم) دون رفضها، وأن (تترك المسألة للمعاونين) - أمريكا والسعودية 79 - يتيح له المراوغة دون خسارة، كما يضمن له عدم التصادم مع الرهان الفائز والنتيجة الأولى (الرئيس الجديد غير مهتم بالشرق الأوسط) - السابق 79- والنتيجة الثانية (التي التقطتها إسرائيل.. أن البيت الأبيض يعطيها الضوء الأخضر لتفعل ما تراه) - السابق 79.
ثانيا:- قناعات السيد دبليو بوش الخاصة حول العرب والإسلام وفلسطين واليهود، تلك القناعات النابعة من اعتقاداته الدينية، ولن أكرر ما ذكرته عن قناعات الفكر الديني الذي يستمد منه السيد بوش الابن استراتيجية تفكيره حول تلك المنظومة الرباعية ودورها في الحلم بعودة المسيح، في التعليق على كتاب لماذا يكرهوننا للأستاذ الزامل، لكن مشكلة تلك الاعتقادات تلخصها لنا السيدة مادلين أولبرايت بقولها (عندما تكون القيادة الأمريكية قوية، تستطيع الولايات المتحدة أن تجمع العالم معا للتصدي لقتل الأبرياء، لكننا لن نتمكن من توحيد أحد حول الاقتراح بأن الاختلاف مع الرئيس الأمريكي يعني اختيار التشاجر مع الله)- الجبروت والجبار، ص 152.
أضف إلى قناعات السيد بوش الابن، الاستشعار المتغلغل داخله بدوره المقدس في تحقيق ما يمكن مما يبشر به العهد القديم، فكما يقول السيد بوش (من المهم أن يكون الرئيس الأمريكي متسقا؛ إذ يجب عليه أن يستند في قراراته إلى المبادئ والقناعات الجوهرية التي لن تتنازلوا عنها)- الجبروت والجبار، ص 153. تلك القناعة التي تصفها السيدة مادلين أولبرايت بأنها قادت (الرئيس بوش.. بعد 11/9 إلى الغزو والاحتلال المطول لبلد ليس له أي علاقة بهجمات 11/9، ووسعت هذه الخطوة الهوة الفاصلة بين المسلمين والولايات المتحدة، وقدمت حياة جديدة إلى القاعدة، وجعلت إلحاق الهزيمة بالإرهاب الدولي تحديا أكثر صعوبة)- السابق 154.
إنها قناعة تكتمل باعتقاد السيد بوش بأنه وصل إلى البيت الأبيض بقرار سماوي فالله (يريده أن يكون رئيساً)، فنحن (نتعامل الآن مع جورج بوش الابن، أول رئيس بعد كارتر يعلن على الملأ أنه من المسيحيين المولودين من جديد، ألمح بوش الابن خلال حملته الانتخابية أنه قرر ترشيح نفسه للرئاسة سنة 1999م، على إثر موعظة سمعها في الكنيسة وكان موضوعها اختيار الله موسى لقيادة بني إسرائيل) - أمريكا والسعودية، ص112. وهكذا فالاعتقاد يدخل خطاب الرئيس بوش السياسي إلى دائرة الدين، بما فيها فكرة الانتقائية التي ينطلق منها مبدأ أن أمريكا شعب الله المختار وأنه الشعب الذي ينشر النور والعدالة للإنسانية فواجب أمريكا هو (تخليص العالم من الشر) كما يكرر السيد بوش، وفكرة الاندماج مع إسرائيل ومع ما تؤمن به من أساطير تتعلق بفلسطين، وبالعرب، وبذا (فهم يحاربوننا ليظفروا برضا الله وجنته، وينفذون فينا مشيئته وإرادته، وهو ما تنبه إليه المفكرون الإسلاميون منذ زمن بدعوى أن هذه الحروب لا تخلو من دوافع دينية)- كيلا يؤرخ أيلول، ص 114.
وبالتأكيد فليس من حقنا قول فلتذهب قناعات السيد بوش ومعتقداته الدينية إلى الجحيم، و(لكن من حقنا أن نرجو أن يكون موقف الرئيس الأمريكي من قضية فلسطين مبنيا على المصالح الاستراتيجية الأمريكية، لا على الخوف من لعنة الرب إذا عارض إسرائيل، كما من حقنا أن نتمنى أن الرئيس الأمريكي لا يشارك صديقه الحميم القس فرانكلين جراهام، ابن مرشده الروحي القس بيلي جراهام، رأيه في الإسلام وهو أنه (دين شرير سيئ جدا) - أمريكا والسعودية، ص113، 114.
أما علينا أن نصرح ثم نترك الأشياء تمر..!
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244