الشاعر الفذ الأستاذ علي زين العابدين من الأصوات الشعرية التي كان لها حضورها الأثير في الشعر الاجتماعي الوجداني النابض بعد منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وهو من الشعراء التقليديين المولعين بتقليديتهم المباشرة المسكونة بالألفة والبساطة، والعاطفة الإنسانية المعبِّرة.
- من قصائده نلحظ ذلك التوجُّه الشفيف المتدفِّق برفق وتفاعل مع الحدث والصورة الحاضرة في تناوله. - ونحن نحزن لفراقه نلملم أوراقنا لنعبِّر عن شيء من الوفاء لهذا الشاعر الإنسان - رحمه الله-.
- وقد سبق لي أن قدَّمت الشاعر علي زين العابدين ضمن الأصوات الشعرية عبر البرنامج الإذاعي (شاعر من أرض الجزيرة) ثم في كتابي الصادر بعنوان (شعراء من الجزيرة العربية) وتناولته بهذه القراءة التي افتتحها بقصيدته التي تعبِّر عن شخصيته المتواضعة إذ يقول:
أنا في بلادي صيدحٌ غناءُ
غردٌ تميس للحنه الجوزاءُ
وإذا اغتربت عن البلاد فإنني
طير ينوح.. وواله بكَّاءُ
من لي بمكة والحطيم وزمزم
يحيى بها قلبي ويُشفى الداء
وترق أشعاري بها فأصوغها
درراً قلائدها هوى ووفاء
وأرقرق الألحان في جنباتها
فتميس من طرب لها البطحاء
بهذه الأبيات من شعره.. نفتتح رحلتنا مع شاعرنا الأستاذ علي زين العابدين الذي تحكي معظم قصائده أنماطاً من الوفاء لأمته ووطنه، وفي هذه الأبيات يهفو فؤاده وهو في بلد الغربة إلى وطنه العزيز، وإلى مسقط رأسه (مكة المكرمة).
شاعرنا الأستاذ علي زين العابدين ولد بمكة المكرمة عام 1343هـ وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي.. ثم ابتعث إلى القاهرة حيث درس في الكلية الحربية بالقاهرة وحصل فيها على بكالوريوس العلوم العسكرية عام 1947م، وابتعث إلى أمريكا للدراسة العليا فحصل على شهادة من مدرسة المدرعات بولاية كنتاكي عام 1951م.. وانتظم في السلك العسكري حتى وصل إلى رتبة (لواء) فأُحيل إلى التقاعد عام 1386هـ.
* وماذا عن نشاطات شاعرنا الأدبية؟
- الشاعر علي زين العابدين عشق الشعر في سن مبكرة وواصل إنتاجه الشعري إلى جانب المقالات الاجتماعية التي ينشرها في بعض الصحف.
وبتناول دواوينه يتضح أن معظمها كُتب في المناسبات العسكرية حيث ميدان العمل، وفي عدد من المواضيع الاجتماعية، وقد خصص ديوانه الأول (صليل) لقصائد المديح والعسكريات والمعارك.
يتفاوت شعر علي زين العابدين بين الضعف والقوة في المستوى الإبداعي لغزارة إنتاجه واستعجاله الكتابة في معاناة لم تنضج مما جعل عدداً من قصائده لا تخرج عن النمطية الباهتة، والنظم المفتقر إلى الوهج والعمق النابض.
* في عام 1404هـ صدر للشاعر علي زين العابدين ديوان بعنوان: (تغريد) يعلل الشاعر سبب تسميته لهذا الديوان بهذا الاسم في مقدمته فيقول: (غرَّد الطير غنَّى وأطرب.. وأطلق المصدر على صور الطيور، أحببت اللفظة منذ فجر حياتي قبل أن ألج بيت الزوجية.. فقد شاهدت مسرحية شعرية في دار الأوبرا بالقاهرة سنة 1365هـ وسمعت لفظة) تغريد تطلق اسماً على إحدى الفتيات المشتركات في المسرحية، من تلك الساعة لامست لفظة (تغريد) شغاف القلب وتمنيت أن تكون لي ابنة أخلع عليها هذا الاسم الجميل.. وحبذا لو أطلقت هذه الكلمة أيضاً على ديوان شعر يوماً ما. وتحققت بمشيئة الله الأمنيتان.
* وقد افتتح الشاعر علي زين العابدين ديوان (تغريد) بقصيدة تحمل العنوان نفسه.. يقول مطلعها:
تغريد قمري وسجع حمائم
وهديل ذات الطوق في أفنائها
تغريد يا بشرى السماء ترقرقت
في خاطري.. فرويت من تحنانها
تغريد ما أحلى نداءك في فمي
شغفات قلبي صفقت بحنانها
تغريد غنوة شاعر يشدو بها
فتردد الدنيا صدى ألحانها
تغريد أروع ما نظمت قصيدة
أنغامها تنهل من أوزانها
تغريد.. أعبق باقة.. نسقتها
غلبت روائحها على ألوانها
تغريد أعذب ما ارتويت بفيضها
عيناً يفيض العطف من أجفانها
تغريد.. يا بنتي.. منحتك درة
وضاءة.. فطربت من لمعانها
وفي ديوانه (تغريد) جمع الشاعر علي زين العابدين القصائد التي كتبها في عدد من بناته وزوجته.. وابنه الذي أهلّ عليه بعد انتظار طويل فاختار له اسم (رضا) وعبر عن فرحته بقصيدة ولدت إثر ميلاد ابنه عام 1347هـ يقول فيها:
أشرق الصبح.. وولى الغيهب
وتجلى في حمانا كوكب
رحمة الرحمن.. ما أعظمها
يأنس الشرق بها والمغرب
إنها البشرى التي أرقبها
رقبة الصادي لماء يشرب
ها هو الحلم تجلى ساطعاً
فانجلى الهم وزالت كرب
ويبتهل الشاعر إلى ربه بالشكر على هذا المولود العزيز فيقول:
أنت في دنياي نعمى ورضا
رضي الله وزال الغضب
بت ليلي ساجداً أحمده
حمد عبد شاكر يقترب
رب إني شاكر معترف
بجميل ليس ينساه الأب
* * *
وفي مهرجان فرحة الأبناء والابتهاج بحضورهم في عالمه الأسري يختار الشاعر علي زين العابدين اسم إحدى بناته لأحد دواوينه وهو (هديل) الذي أطلقه على ديوانه الثالث الذي يحمل مجموعة من القصائد الوجدانية الإنسانية رغم أن قصيدته (هديل) نشرت ضمن ديوان (تغريد) كتبها عند بلوغ ابنته (هديل) السابعة من العمر.. يقول فيها:
هديل.. يا حبيبتي الصغيرة
يا بضعة من مهجتي.. أثيرة
ترنمي تردد القماري
ألحانك المعسولة المثيرة
وعبّري عن فرحة وغبطةٍ
تغشى أباك الثاقب البصيرة
أولاك حباً ما له من آخر
لأنك المولودة الأخيرة
جددت في أعماقه الأماني
فغردت - بالفرحة - السريرة.
إنه قد نسي في غمرة الفرح بؤرة المعاناة فانفطرت العبارات عن نبض الشعر لتنظيم في عقد من المديح الذاتي لشخص قائلها فضعف في تنظيمها ألق الشعر النابض المؤثر.. وهذا عيب من عيوب التقليدية واستعجال الكتابة الشعرية قبل تبلور الفكرة ونضوجها في وجدان الشاعر واستعداده الكامل للتناول الإبداعي الرفيع.
وفي مقدمة ديوانه (هديل) يعلل الشاعر علي زين العابدين ذلك بقوله: (هديل، من حيث التعريف اللغوي هنا صوت الحمام، والهديل له معانٍ أخرى في قواميس اللغة، وهديل مثل (صليل) وتغريد من أسماء الأصوات، هديل، هو صوت الحمام، ولا يدري أهو بكاء أم غناء، وكما قال فيلسوف شعراء العربية الفحل أبو العلاء المعري:
أبكتْ تلكمو الحمامة أم غنَّت على فرع غصنها الميَّاد
فهو يتساءل عما إذا كانت الحمامة تبكي أم تغني، فنبرات صوت الحمام لا توحي بغناء ولا بكاء فيختلط الأمر على من يسمع الحمام وإن غلب عليه الشجى).
وتعليل الشاعر زين العابدين لتسميته ديوانه بهذا الاسم لأنه - كما يقول - جمع فيه قصائد بين البكاء والغناء يعبر عنها باختصار في هذين البيتين:
أنا في بلادي صيدح غناء
غرد تميس للحنه الجوزاء
وإذا اغتربت عن البلاد فإنني
طير ينوح.. وواله بكَّاء
ونتساءل قبل ذلك وبعده عن الشعر؟ وماذا يعني لدى شاعرنا على زين العابدين؟
فيجيب بهذه الأبيات من قصيدة بعنوان (قنديل) موجهة إلى صديقه الشاعر أحمد قنديل - رحمه الله - تقول أبيات منها:
الشعر تعبير القلوب.. ورجعها
يحيي الموات.. ويسعد الأحياء
لولاه ما وضع الملحن لحنه
كلا.. ولا سمع الأنام غناء
الشعر في هذي الحياة ربيعها
لو لاه ما رأت الحياة هناء
الشعر أزهار، يضوع عبيرها
فيعطر الآفاق والأجواء
الشعر ريُّ الظامئين، وبلسم
للموجعين، فكم شفت أدواء
الشعر منتجع النفوس ومرتع
تغشاه، تنشد في رباه صفاء
من رام للنفس الحزينة برأها
فليقصد الأشعار والشعراء
الشعر فلسفةٌ وحكمة وعالم
تذكي العقول وتخلق الحكماء
الشعر جامعة تضم فروعها
العلم والأخلاق والإنماء
وقد كانت للشاعر علي زين العابدين مساجلات شعرية بينه وبين بعض أصدقائه من الشعراء، تجاوزت المجاملة الإخوانية الساذجة إلى التأمل وتبادل الرأي والإعجاب والإبداع الجميل، خصص له الشاعر شطراً من مساحة شعره ونفسه، من أولئك الشعراء الشاعر أحمد قنديل الذي قرأنا أبياتاً من القصيدة الموجهة إليه، والشاعر محمد حسن فقي، والشاعر طاهر زمخشري حيث يشاركه شجنه وأنينه فيقول علي زين العابدين:
أتراك تأنس بالدموع، وبالكآبة، والشجون
أترى المصائب علَّمتك النوح.. نوح القانطين
لكأن شعرك بالأسى يرفضُّ عن جرح دفين
وكأن صوتك بالأنين نواح شادية مبين
وكأن نوحك في الدجى نوح الحمامة في الغصون
خفف - رويدك من بكاك - فقد تذوب من الحنين
لكنني بالصبر قيدت العواطف، والعيون
وكتمت آهات الأسى فقتلت حقد الشامتين
* * *
ولم يكن الشاعر علي زين العابدين من الشعراء الرومانسيين الحالمين على الرغم من تأثره بالمدرسة الرومانسية التقليدية، وإنما كانت له مشاركاته الاجتماعية الجادة في تناول عدد من القضايا الواقعية بأسلوب مباشر يخاطب نبض المجتمع ويتفاعل مع إيقاعه السريع اللاهث.
لا تقلها: إنها كربي.. وقهري
لا تقلها: إنها تقصف عمري
لا تقلها: إنها تكشف ستري
لا تقلها: جف ينبوعي وزهري
لا تقلها يا حبيبي... فهي قهري
أذكر العطف الذي أسقيتنيهِ
عطف قلب عاشق.. قد ذبت فيه
كل ما أمعنت في دلّ.. وتيه
زدت في حبي الذي محضتنيه
بالحنان الحلو.. بالعيش الرفيه
* * *
قبل أن نغادر منتجع الشاعر علي زين العابدين نتوقف - متأملين - عند هذا النموذج التقليدي الذي يتناول إحدى ذكريات الشباب فما أجمل أن تمزج رتابة الجد بشفافية الغزل ورقته..
وننصت إلى صوت شاعر يناجي كوكباً أشرق في سماء وجدانه لكنه مسكون بأصداء الأصوات الشعرية القديمة، متأثر بها، يقول في قصيدته:
شقراء: يا ألق الصباح، ويا ضياء الكوكب
يا بسمة الفجر المنير على مروج السبسب
يا طلعة الأمل الحبيب على فؤاد متعب
عيناك إشراق المنى.. سطعا بقلب الغيهب
شفتاك إكسير الحياة لمدنف متعذب
أو ما اكتفيت بمقلتيك تريش قلب المعجب
وها هو يعبر عن مشكلة الفراغ انعكاساً لمعاناته منها وتجربته معها فيقول في قصيدة له بعنوان: (الفراغ):
اسألوني عن الفراغ فإني
قد علمت الخفيَّ من أسراره
هو علمي الذي تخصصت فيه
وتعمَّقت في خضمِّ بحاره
عشت فيه السنين ابحث بحثاً
في أفانينه وفي أسفاره
واستعدت الدروس تُتلى فأتلوها
مراراً تميط عن أستاره
هالني منه وحشة وظلام
ينفثان الشقاء من أوكاره
هو ليل دجاه ذعر ورعب
وهموم دفاقة بالمكاره
هو موت محقق يقتل الروح
ويخني على الحجي وازدهاره
هو سجن العقول يكتب مسراها
ويهوي بها إلى أغواره
ويتناول الشاعر مأساة من المآسي الأسرية تتمثل في لحظة الفراق المر بالطلاق، فيعالجها بأسلوب قصصي حواري مباشر على لسان المرأة التي ربما واجهت الزوج الغاضب بما يشعل غضبه، فيهددها بالطلاق وينسج المعاناة البائسة التي افتتحها بالأمل من قصيدة (لحظة فراق):
شقراء.. إني شاعرُ عشق الجمال فغرّدا
وجه أعارتْه الرياض ورودها.. فتورَّدا
الليل كحل مقلتيك.. وقبل الفجر اليدا
والأقحوان غدا بثغرك كالعقود منضدا
والأحمر العناب حام على الشفاة.. وأخلد
والغصن تيَّمه قوامك فاستحى.. وتأوَّدا
* * *
* رحم الله شاعرنا الأستاذ علي زين العابدين الذي أعطى لأدبه ومجتمعه وأمته فاستحق الوفاء والذكرى.