الذي يقرأ كتاب: (مراجعات الماشي - تأملات في الفن والفكر والحياة)، ويتأمل منهج المؤلف، ويحلل طريقته في الطرح والتناول، عم يلاحظ قصر فقرات الكتاب، سوف يدرك دون عناء أن الأستاذ (عبدالواحد اليحيائي) ابن بار للحاسب الآلي والشبكة العنكبوتية، وذلك يعني تلقائياً أنه في الوقت ذاته ابن زمانه ومرحلته تماماً هذا الزمان الذي لا يتثاءب ولا ينتظر والمرحلة التي لا وقت لديها للاسترسال والتأني، ومن هنا جاء عنوان الكتاب كذلك ليشهد على هذا النسق فالمسألة مع أنها مراجعات وخلاصات وحكم إلا أنها تمر وتأخذ طريقها على الماشي.
وكما الماشي الذي لا يتوقف فليس لديه الوقت لإضاعته وتبديده، والزمان والمسافة لا ينتظران أحداً..
على أن أهم ميزة في أسلوب الكاتب هو هذه اللغة الحاسوبية العنكبوتية التي بقدر ما تحمل من المعاني والمعلومات تحمل كثيراً من المباشرة والوضوح والصراحة، هذه اللغة التي تحمل تفسيراتها معها وتتأبط تعليلاتها وتتوشح بمضامينها، ويعتمر منطوقها مفهومها.
وفي هذه المداخلة لهذا الكتاب ومؤلفه سوف أبدأ بالفقرة ذات العنوان: (لماذا أكتب؟) ص 85، التي سجل المؤلف فيها فلسفته ورؤيته للكتابة ودوافعها، والذي يتبادر إلى ساحة الأخذ والعطاء يأتي على شكل تساؤل يقول: (لماذا لم تكن هذه الفقرة التي تعد من أهم ثيمات الكتاب هي المقدمة؛ فثمة أسباب منهجية وفلسفية ورئيوية تكمن وراء ذلك وتدعو إلى ذلك؟!).
أما الفقرة التي وضعها الكاتب مقدمة لكتابه فيمكن أنْ تكون تمهيداً يلي المقدمة.. أو فقرة تحمل الرقم (2) بعد تلك الفقرة آنفه الذكر.. على أي حال ذلكم تساؤل يطرحه متلقٍ عاش فترة الحداثة على مؤلفٍ يمثل جيل ما بعد الحداثة بأسلوبه وطريقة التناول لديه.
يقول الأستاذ (عبدالواحد اليحيائي) في فقرة (لماذا اكتب؟)..:
(نكتب..
ولماذا نكتب؟
ولمن نكتب؟
في الغالب نكتب لأنفسنا..
وربما لنقول: إننا نعرف..
وربما لننقل ما عرفناه إلى ذاك الآخر..
ولعلنا حين ننقل إليه ما كتبناه ننتظر رضاه أو سخطه بطرقٍ مختلفة..
الكتابة ارتقاء بالعقل..
وانطلاق بالروح..
وحديث النفس إلى النفس وحديثها للآخر ومعه وبه
نكتب إبداعاً..
نكتب نقلاً..
نكتب تفسيراً
ونكتب تبريراً
وفي كل أحوالنا نحب أن نكتب كتابه هي فن للفن كما هي كتابة للكتابة وحياة للحياة..) ص 85 -86
إذاً المحور الرئيسي في دوافع الكتابة لدى الكاتب هي الارتقاء بالعقل، والانطلاق بالروح وبوح النفس إلى ذاتها وإلى الآخر..، وتلك من دون شك مهمة مثالية للكتابة، ولو استعرضنا ما سجله الكتاب في مختلف الأزمنة والمراحل والساحات حلو هذا المفهوم لحفل هذا التناول برؤى مختلفة وفلسفات عديدة.. على أن أهم ما سجل في التناول برؤى مختلفة وفلسفات عديدة.. على أن أهم ما سجل في هذا الصدد وما ورد في ذلك هو ذلك المفهوم الذاتي البحت الذي بقدر ما يحمل من الصدق والنصاعة والطهر والنقاء من كل الشوائب هو كذلك يحمل أمداءً وآماداً من العزلة ومفارقة النسق والسياق والمحيط، إنه ذلك التعليل والتفسير الذي يشير إلى أن الكتابة - وبمفهومها الأسمى - إنما هي (نوع من الخلاص من الحالة)، والكتابة في هذه الرؤية هي اضطرار وليست اختياراً ولجوءً واستغاثة وليست بدءاً ومبادرةً..
وفي كل الحالات في الفقرة التالية من هذا التناول سيتبين أن مؤلف كتاب (مراجعات الماشي) قد أدرج ذلك المفهوم أيضاً ضمن السياقات التي تعبر من خلالها الكتابة بين المبدع والمتلقي..
ونعود الآن من فقرة (لماذا أكتب؟) إلى مقدمة الكاتب التي أفردها لمسألة الحياة داخل الأسئلة والارتياح خارجها..
يقول الكاتب في مقدمته:
(وأحياناً أتساءل: كيف ستكون حال الإنسان لو كان بلا قدرة على طرح الأسئلة؟..
حاله فرداً..
وحاله في مجتمعه..
وحاله في مكانه وعبر زمانه..
هو كائن يجيد رصد تجاربه..
وأيضاً يجيد تطويرها من مرحلة إلى مرحلة باتجاه الأكمل
يسأل سائل عن موقع الإنسان في الكون كله وعلاقته بالله وبالناس فيجيبه الأنبياء والرسل والفلاسفة والكتب السماوية والأرضية وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وقد يقتنع بإجاباتهم وقد لا يقتنع، وقد يؤمن بما قالوه وقد يكفر لكن لا مناص من الاعتراف بأنه حين سأل دخل في مرحلة أخرى من مراحل تطوره وخرج من نفسه إلى نفسه كما في (حي بن يقظان) أو (روبنسون كروزو) أو خرج من نفسه باتجاه الآخر.. لكن أيهما أفضل: أن نعرف كيف نسأل أو أن نعلم كيف نجيب؟
هل ندخل في حوار البيضة والدجاجة وأيهما أسبق إلى الوجود؟
لا.. لن نفعل ذلك..
لكن لنقل: إن الأفضل هو ذلك السؤال الذي يحرض الإجابات كلها والإجابات التي تخلق الأسئلة بعد الأسئلة..)هـ.
وما دام أن الكاتب قد وضع هذه الفقرة مقدمة لكتابه فالمترتب الطبعي لذلك أن يكون المحور المهم جداً في الكتاب هو الأسئلة المتوالدة من الأسئلة، والإجابات المحملة بالمعلومة والإفادة التي لا تتوقف عند إصدارها وإثماً تبعث السؤال من جديد في منحى جديد يظل أبداً في استقبال الإجابة تلو الإجابة..
اشتمل الكتاب على جملة من العناوين المثيرة للأسئلة والمنتظرة للإجابة مثل: (علمانية) و(الدين والدولة) و (الراقصة والطبال) و(نحن والغرب) و (من هو العربي؟) و (أتعبنا التاريخ) و (ثابت ومتحول)، و(حب وضب!) و (الوثنية الجديدة) و (صفات) و (رمادي) و (فصحى وعامية) و (عاشوراء) و (الدين والدولة والإرهاب).. و (انسلاخ مثقف) و (ديموقراطية وحرية).. إلخ...
وتأكيداً للأسلوب الحاسوبي والطريقة العنكبوتية يختتم المؤلف كتابه بجلمة من الفقرات القصيرة المكثفة جداً يقول المؤلف عنها: (إنها بنت الاختصار ونواة للكتابة الطويلة..) نقتبس منها ما يلي:
- (بعض الناس يخلدون في التاريخ؛ لأن مؤرخاً تذكرهم في غفلة من الزمن).
- (الأولون ليسوا أكثر من أسماء على الهامش).
- (الأخلاق ليست مقياساً لجودة العمل الفني).
- (ما قيمة التاريخ بأكمله لولا أولئك الذين يشقون لنسعد)
- (الشهرة لا تعني العظمة، لا يوجد في الدنيا أشهر من إبليس)
- (بعض الناس يلبس قناع القبح ليخفي لاجمال، وبعضهم يلبس قناع الجمال ليخفى القبح.. هو فرق بين التواضع الكاذب والمجاملة السمجة)
- (العقول التي انغمست في العواطف هي الأعظم في تاريخ الإنسانية)
وبهذا التنوع والتكثيف والسرعة يقدم المؤلف كتابه: (مراجعات الماشي في الفن والفكر والحياة) مادة حية جذابة وأنموذجاً لمرحلة ما بعد الحداثة ولحقبة الحاسبوب والشبكة العنكبوتية التي من أهم سماتها اختصار المجلدات في فقرة واختزال الفقرات في ومضة.. إنها كتابة الومضات الذاهبة في صميم المستقبل.. الكتاب من إصدار دار المفردات للنشر والتوزيع في الرياض.