عندما أهداني الصديق الأستاذ عبدالرحيم الأحمدي نسخة من روايته (وادي العشرق) سألته:
هل تنصحني بقراءتها؟!
ضحك طبعاً من غرابة السؤال، ولكنني أصرّ على المبادرة به كنوع من الاستفزاز أو استشفاف قناعة الكاتب تجاه كتابه، وحين رأيت الرجل يصرّ عليّ أن أقرأ.. قرأت!
حتى اللحظة لم أتجاوز في قراءتي للرواية سوى 24 صفحة كان آخر سطر فيها عبارة الكاتب:
(هذه لمحة موجزة عن الوادي) إلى قوله (وهي جزء من تأريخه الثقافي الذي يصيغه خيال البشر الواسع).
في الحقيقة أنني أرى غير ذلك، فالصفحات الأربع والعشرون الأولى من الكتاب، قرأتُ فيها ما يمكن أن أجزم بصحته رغم كثافته وغرائبياته حول أحداث تدور في بطون الأودية والشعاب، فذلك البائس الضعيف الذي وجد بين عينيه قطيعاً من الإبل بلا صاحب، حتى رعى القطيع بغرض المحافظة عليه إلى حين ظهور صاحبه فإذا به يمتلك القطيع تماماً ويكتشف الناس أنه امتلك قطيعاً من الجان.. وذلك الثعبان الذي حاول إيذاء الحية، ويتبين في السياق أنها من أميرات الجان تتعرض لأذى من أحد عبيدها.. والكثير الكثير من الأحداث والمشاهد التي يعتبرها البعض (خيالية) بينما أصرّ أنا على اعتبارها (واقعية) لدرجة التطابق تماماً، فقد كنتُ شاهداً على مثيلات هذه (الوقائع) حدثت أمام عينيّ، قبل ربع قرن تقريباً، في مكان يشبه (وادي العشرق) اسمه (شعب بني مرح) وأظنه لا يبتعد عن وادي العشرق كثيراً، فشعب بني مرح يقع في جنوب مكة المكرمة على طريق الليث.
ولكنني قبل أن أتكلم عن (شعب بني مرح) رأيت أن أرجع إلى أعداد (الجزيرة الثقافية) لأرى كيف تناول أصدقاؤنا الأدباء عمل صديقنا الأحمدي (وادي العشرق).
فاستوقفتني مقالة الأديب الصديق عبدالحفيظ الشمري، في العدد 155 بتاريخ 29/5/2006م من هذه (المجلة الثقافية).
يقول الأستاذ عبدالحفيظ الشمري في آخر قراءته لرواية (وادي العشرق):
(بيئتنا المحلية مليئة بمثل هذه القصص التي تفوق الخيال أحيانا، في وقت قد تؤخذ فيه هذه القصص والمواقف على أنها واقع يجب التفاعل معه، والتعايش مع بعض تفاصيله إما بتصديق كامل من قِبل بعض البسطاء وإما مسايرة للواقع على نحو ما فعلته أسرة الفتى (راشد) في رواية (وادي العشرق) فهناك من يذهب إلى الاعتقاد أو التصديق بأمر هذه الحكايات وآخرون تكون عندهم من قِبل التأمل في واقع القصة المروية عن الجن وأهل الخفاء باعتبارها بعدا فنيا شيقا يحقق الرؤية الأمثل لواقع الحياة الانسانية اليائسة.. تلك التي تتعلق بأي شيء حتى وإن كان لا يمت للواقع بأية صلة).
أقول: قد أتفق تماماً مع رأي الأستاذ الشمري في أن هذه الرواية تحمل الكثير من (الخيال البشري) في أمور وتصرفات أبطالها (بشر) ولكني بعكس رأيه تماماً في كل أمر أو تصرّف أو حدث يأتي من صنيع العالم الآخر (الجان).. فما رأيت وشاهدت وشهدتُ في (شعب بني مرح) يجعلني أؤكد على أن الخيال البشريّ مهما ترقّى وتفتق لن يستطيع أن يصل إلى مستوى القدرة الفعلية لدى ذلك العالم، وهو ليس عالماً افتراضياً أبداً، ولكنه عالم استثنائيّ بمعنى أنك لن تتعرّف إليه ولن تجد نفسك فيه افتراضاً، ولكنك قد تكون شاهداً عليه استثناءً.
وسأذكر الآن حادثة كان (عالم الجن) بطلها بامتياز، بينما كنت أنا (ولا أحد غيري) جمهورها الشاهد عليها، وقد حدثت تحديداً عام 1405هـ 1985م أي قبل هجرتي من مكة إلى الرياض بسنوات قليلة، وكنتُ وقتها في السادسة عشرة من عمري.. وقد يقول قائل: (ذلك سنٌّ لا يمكن الوثوق به) فأقول، وأنا الآن أقترب من الأربعين: لو أنني رأيت في ذلك الحدث ما يمكن أن يكون غير صحيح، لكنتُ أنا أول من يرفضه ولا يأتي على ذكره!
والطريف في الحدث أنه يتلاقى في بعض مشاهده مع الأحداث المروية في الصفحات الأولى من رواية (وادي العشرق) ويمكن الرجوع إليها لمعرفة مدى تطابقها بما حدث معي، ولا أذكر أنني رويته لأحد من الوسط الثقافيّ أبداً.
ما حدث معي بالضبط، هو أنني: كنتُ في طريقي من مكة المكرّمة إلى (بحر الشعيبة) أو ما كنا نسميه (بحر مكة) ومع أنني كنتُ أحفظ الطريق عن ظهر قلب، غير أنني تقريباً أضعت الطريق في أوّله، وكنتُ حديثَ عهدٍ بقيادة السيارة، ولا أحد معي، فتهيّأ لي أن السيارة التي تسير أمامي هي لأحد أصدقائي، فتبعته وأنا أؤشر له بالنور.
المهم أنني دخلت خلفه إلى خبتٍ ومتعرّجاتٍ ترابية وصرنا كأننا نتسابق مع غبارنا، إلى أن وقفت بي السيارة وقد غرزت عجلاتها في الرمال، وكان القمر بدراً، فنزلت منها لأشاهد منظراً لن أنساه ما حييت: خمس نساء - من أجمل ما رأت عيناي حتى اللحظة - يسبحن في بركة ماء.
للوهلة الأولى أحسستُ بشيء من الارتياح والحبور، ثم بدأ عقلي في التفكير بشيء من الريبة، وما لبثتُ أقف على قدميّ حتى أحسست بشيء من الرعشة والخوف.
لم أنبس ببنت شفة، فقط عدتُ أدراجي إلى السيارة فلم أجد (الدركسيون) نظرتُ إلى المقعد الأيمن فوجدتُ أن مقعد القيادة قد انتقل إلى الجهة اليمنى، ركبتُ (من الجهة اليمنى) وقدتُ سيارتي فلم أعثر على طريق الخروج إلى (السكة) أبداً.
تهتُ في تلك الدروب الترابية المتعرّجة، وأنا أقود سيارتي من الجهة اليمنى، وكما قلتُ كنتُ حديث عهد بالقيادة ولم أكن جربتُ القيادة في (بريطانيا) مثلاً حتى أتمكن منها.. وهكذا مشيت في أكثر من اتجاه حتى غرزت العجلات مرة أخرى وقد أعياني التعب وغمّ على عينيّ النعاس فلم أعد أشعر بنفسي إلاّ والشمس تسطع وتلسعني فصحوت لأجد نفسي نائماً في مقعد الراكب الأمامي، والسيارة كما هي (على طبيعتها الأصلية) ولم تكن عجلاتها غارزة في الرمل أبداً، بل كانت واقفة في مقابلة السكة - الطريق الذي دخلتُ منه بالضبط!
تحركتُ بسيارتي، ورحتُ أسأل عن ذلك المكان، فقيل لي: اسمه (شعب بني مرح) وقد سمي بذلك لأن الجن تمرح فيه ليل كل منتصف شهر هجريّ (أي وقت اكتمال البدر) وتلك الليلة كنتُ أنا ضيفاً عليهم، ولكني خرجتُ سريعاً.
غير أنّ الأمر لم ينتهِ معي عند ذلك الحد، فقد كنتُ عنيداً وأعشق اكتشاف الخوارق، وهذا ما دفعني إلى زيارة ذلك المكان (شعب بني مرح) مرة أخرى، في ليلة اكتمال البدر أيضاً، دخلت دون أن أدري إلى أي اتجاه هو بالضبط، في ذلك الخبت، فأوقفتُ سيارتي وجلست مستلقياً على (الكبوت) أتلمّس دفء الماكينة فإذا ب(حمار) أبيض اللون يقترب مني، ووالله شعرتُ بخوف لم أشعر بمثله في حياتي، فقفزت إلى السيارة وتحركت بها.. ولكنني حين نظرتُ نحو الحمار لم أجد سوى رجل عجوز يتوكأ على عصا!
هذه كانت مقاربة سريعة بين الواقع والخيال، مع أنني لا أعرف تماماً إن كانت رواية (وادي العشرق) كلها خيال أو كلها واقع، فقط أردتُ أن أقول: ليس من المعقول أن نلغي عالم الخفاء تماماً ونحكم على كل المرويات عنه بأنها مجرد خيال، إذ إن الخيال أحياناً لا يستطيع أن يصل إلى هذا المستوى من الواقع.
www.ffnff.com
الرياض 11594 ص.ب 58433
فاكس 4583716