تعبير كنز لا يعني سوى شيء ثمين من الذهب أو المجوهرات تركها الآباء والأجداد وتركها ملوك وتركتها حضارات قديمة ويعثر عليها سكان معاصرون أو قراصنة أو مافيات للمتاجرة بها فيصبحون من أصحاب الملايين، وقد يصدرون مجلة أو ينشئون قناة فضائية كنوع من الحج الثقافي لغير المؤمنين، أو قد تعثر عليها مؤسسات ذات نفع عام وتضعها في المتاحف (فرجة) للمتعلمين أو لحملة الفضول.
لا أحد يعرف على وجه التحديد دوافع دفن تلك الكنوز تحت الأرض وفي داخل صناديق تقيها من النيران وعوامل الزمن. قد يكون فقدان الأمن السبب الرئيس في دفن تلك الكنوز، ومات صاحب أو صاحبة الكنز دون أن يمنح السر لأولاده فبقي الكنز مدفونا.
وهناك كنوز معاصرة وهي ملايين ومليارات الدولارات يملكها أثرياء من هذه الأمة يرفضون القيام بمشروع ثقافي يخلدهم، مشروع يمنح المعرفة ويؤسس الذاكرة ويسهم في دفع الشرور بعيداً عن النفس الإنسانية، فيفضل صاحب المال إيداع كنزه في مصرف من مصارف سويسرا التي تتعامل أحيانا بكلمة السر، ويخشى صاحب المال أن يبلغ زوجته أو أبناءه بكلمة السر خشية أن يسرقوا ماله وحين يتعرض لحادث طائرة أو سكتة قلبية فيموت ويموت معه السر وتغتني بلدان ليس عندها نفط ولا كبريت ولا الزئبق الأحمر النفيس.
أرسل لي كاتب غير معروف كثيراً في الأوساط العربية مقطوعة مطولة شعرية سينمائية عنوانها (كلمات لا تريد أن تكون شعراً) عبر فيها عن واقع العراق السياسي والثقافي وحلل أبعاد اللعبة الدائرة في الوطن.. عندما قرأت النص أذهلني لشد ما هو دافئ وحنون وصادق ومعبر.
هؤلاء الكتاب وغيرهم كثر لديهم ربما كنوز لا يعرفون كيف يبيعونها لأن أسماءهم لا تملك رنين الاسم وبريق الشهرة.
كنوز سوف لن يعثر عليها أحد .. ربما.
ذكرتني هذه الكنوز بحادثة حيث تلقيت قبل سنوات عديدة مكالمة هاتفية من شخص لم أكن قد سمعت باسمه فهو ليس من الأوساط الأدبية ولا الفنية ولا هو بالسياسي. وقال لي بالاسم أنت مدعو لزيارتي وسأرسل إليك تذكرة الطائرة قلت له أنني بالمصادفة آت إلى حيث تقيم فلا ترسل لي التذكرة وسأهاتفك عند وصولي.
بقيت قلقاً.. ما سر هذه الدعوة .. لم يكن صاحب الاسم يملك مهرجاناً سينمائياً حتى يعرض أحد أفلامي أو صاحب دار عرض سينمائية فيشتري فيلما ولا هو مالك لقناة فضائية حتى يتفق معي على برنامج تلفزيوني وثائقي.
سألت عنه وفوجئت بإجابة صديق لي ضاحكاً حيث قال لي إن من دعاك لزيارته هو اسم نشر من بين أغنى عشرة أسماء في البلد الذي يقيم فيه.
وصلت بلده حيث يقيم وبعد دعوة الغداء شربنا الشاي بالهال الكثير .. ثم جاء السؤال العربي بعد الطعام عن الدعوة وأسبابها .. سألني سؤال عن العمر حيث أمضى به العمر وعما ينبغي للإنسان أن يفعله في مثل هذه الرحلة وفي مثل هذه المرحلة من العمر.
قلت له: أنت وهبك الله مالاً.. هناك كنوز أدبية وفنية لمبدعين لم يحالفهم الحظ ولا سلمت عليهم الفرص يوماً... أنشئ مركزاً ثقافياً وشكل لجنة شريفة تدير شؤونه وتنشر مؤلفات الكتاب وتتيح للرسامين من عرض أعمالهم في كاليري داخل المركز الثقافي وابْنِ مسرحاً يتسع لمائة كرسي يقدم فيه المسرحيون أعمالهم وادعم الأعمال السينمائية الجادة ثم فكر بإنشاء فضائية متواضعة وجميلة تحاكي الطيبة في الحياة وترسم المسار الصحيح للإنسان.
سألني: وهل تستطيع أن تنظم لي الجدوى المالية للمشروع؟
قلت له هذا المشروع ليست له جدوى مالية .. له جدوى معنوية عالية.
ابتسم الرجل واكتفى بالابتسامة ..
عندما ودعته سألت نفسي إن كنت أنا على صواب أم على خطأ في إجابتي عندما لم أستجب لطلبه وأقدم له جدوى مالية حتى ولو كانت غير حقيقية.
مرت ثلاثة شهور .. تلقيت مكالمة هاتفية من نفس الرجل ولكن الصوت كان بطيئا ومتقطعا ومرتجفا .. قال لي .. أنا مسافر إلى أمريكا للعلاج .. فلقد أصبت بالشلل .. وسأخبر مديرة أعمالي أن تبرق لك رقم هاتف المستشفى .. هل لا تزال فكرة المشروع الثقافي في ذهنك؟
المشروع الثقافي بقي في مخيلتي وقد فات عليه الأوان .. والكنوز الأدبية تكثر في الوطن.. وكنوز المال تبقى راكدة في خزائن مصارف سويسرا.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl