أنا ممن يحب الكتب على تنوُّعها لدرجة كبيرة. ولا أعرف كتاباً اشتريته أو وقع في يدي أو أُهدي لي إلاّ أتيت عليه في وقت سريع. واليوم أُهدي لي كتاب أحببت أن يشاطرني القراء الكرام بعض تجلياته، وبعض صعوباته، ويطلعوا على الجديد في تناوله.
عنوان الكتاب: (عقل تطارده الأشباح .. جاء في 171 صفحة من القطع المتوسط طبع في سنة 1428هـ، وهو خلو من اسم دار النشر. والناشر هو مؤلِّف الكتاب، وهو: الأستاذ عبدالله بن سليمان العسكر).
وجدت صعوبة كبيرة بعد قراءتي للكتاب كيف أصنِّفه وأين أضعه من فنون المؤلَّفات. نعم وجدت صعوبة كبيرة لم أعرفها من قبل، والغريب أنني لم استطع أيضاً أن أتبيّن هل مصدر الصعوبة عجز صاحب الكتاب عن تحديد الفن التأليفي الذي يرومه. أم أن مصدر الصعوبة في الكتاب نفسه من حيث كونه جمع فنوناً كثيرة في مسار واحد. وحتى أبيِّن ما أقصد أقول: إنني لا أستطيع أن أضع الكتاب في صف الروايات، ولا أستطيع أن أقول عنه كتاب تأملات، ولا أستطيع أن أصنِّفه على أنه كتاب ذكريات أو مذكرات شخصية سريعة.
الكتاب يجمع كل ذلك وأكثر. وهو يبدى بداية تجعلك تقول إن الكتاب يقدم مدخلاً درامياً لرواية تقوم على نفرين: المؤلف وهو هنا الراوي، والشخصية الرئيسة في الكتاب وهي جدة المؤلف القابعة في قرية نسي التاريخ موقعها يوماً ما. وهذه الشخصية أخذت بلباب المؤلف لدرجة أنه ذاب في كامل الصورة، وهو نسي نفسه إلى حين. وعندما يتذكر نفسه على أنه راوي الحدث التاريخي القصصي، ينتبه بشكل صارخ عن طريق تأمل من تأملاته الفلسفية الموغلة في الشك. على أنه يجعل مدخلاً شبه لازم وذلك بطريقين: الأول إيراد شاهد شعري من شعر المتنبى أو أبي العلاء المعري. والثاني يورد مقطعاً من شعره الذي قاله في أزمنة مختلفة. بمعنى أنه لم يقل هذا الشعر من أجل هذا الكتاب وهنا تكمن الصعوبة. فنحن لا نستطيع أن نقول إنه يكتب مذكراته شعراً، لأننا لا نلمس أثر الصنعة التاريخية في شعره، ثم إننا نؤخذ على غرة عندما يحدثنا عن تجلياته الفلسفية.
وتجلياته الفلسفية لا تنبع من قراءات في كتب الفلسفة. وهو وإن كان اطلع على بعضها كما يُشم من بعض مفرداته وتعابيره، إلاّ أنّ أغلب تجلياته جاءت من مصدرين: الأول تجارب شخصية بحتة مرت به، وعركته وعركها. وهي تجارب بسيطة لا تتعدى أجواء القرية والبستان ومجايليه من أبناء الجدة وأحفادها. ونحن نرى غياباً ملحوظاً للأنثى سوى جدته في تلك التجليات. والمصدر الآخر في تلك التجليات جاء من قراءات قديمة في شعر المتنبي وأبي العلاء المعري. على أنّ أمراً يلزم القارئ الوقوف عنده وهو عدم إشارة المؤلف لديوان كامل محقق لكلّ من المتنبي وأبي العلاء المعري. نستطيع أن نقول إن المؤلف لم يشغل باله بتصفُّح كامل الديوانين ولا هو معني بتحقيقات الديوانين وشروحهما. وهو أقرب إلى كونه يحفظ شوارد الشاعرين. ولا استبعد أن حفظه جاء من مختارات كانت مما يُدرس في الكلية التي اختلف إليها المؤلف.
وكلما توغّلنا في صفحات الكتاب زادت صعوبة المتابعة. والمؤلف يقف عند نقطة معيّنة لا يجب التوقُّف عندها، إذا كنا نعد ما يكتب رواية. يقف ليقفز بنا إلى موضوع آخر. فهو مثلاً جعل جدته مدار حديث الكتاب حتى صفحة 49 ثم هو يأخذك في حديث عن القرية، ويجعل من هذا الحديث مدخلاً لجعل شخصيته مدار بقية الكتاب. هذا ضرب عجيب لم أعرفه في البناء الدرامي للرواية. ومن هنا لا أستطيع أن اسمي هذا العمل رواية. لأن المؤلف يتحدث عن شخصه مباشرة لدرجة يستطيع القارئ الذي يعرف المؤلف أن يسمي الأشخاص المذكورة في الكتاب بمسمياتهم.
لقد قام مؤلف هذا الكتاب بعمل مقارنة صارخة بين جيلين وزمنين: جيل ما قبل النفط وجيل ما بعده. وهو يقول الزمن القديم والزمن الحاضر. كل الناس تقريباً شغوفين بالمقارنات، وكلٌّ يغني على ليلاه؛ لكن مؤلفنا سلك طريقاً محفوفاً بالمخاطر فهو أولاً ينتخب ظواهر محددة من أجل المقارنة. ثم هو يتجاهل التاريخ وتطوره تجاهلاً يكاد يكون كاملاً. وأنا أبحث عن سبب كرهه للماضي وثقافة الماضي لا أجد سبباً واضحاً. وهو ينعى كل الماضي، خصوصاً أنماط التعلُّم والتربية والدراسة. استمع إلى ما يقول في هذا الصدد: (وبعد ذلك وجدتني أحمل شهادة جامعية في اللغة العربية، فإذا سألت ماذا أجيد وماذا تعلمت في مواجهة الحياة وما السلاح الذي زوّدتني به دراستي، وجدت ما تعلمته هو ما تعلمه أبي في الكتاتيب. يكتب على اللوح وبمداد من صنعهم، فأنا وهو نجيد القراءة والكتابة فقط اللهم إلا أنني أحمل شهادة كُتب فيها تخرّج في كلية اللغة العربية واسمها شهادة جامعية لا تغني ولا تسمن من جوع. فأنا وأبي في الحقيقة تخرّجنا من محو الأمية كلانا لا يجيد مهنة، ولا يعرف لغة أجنبية ... ص 84).
هو هنا يعد نفسه المتخرِّج في كلية اللغة العربية مثل أبيه الذي درس في الكتاتيب، ولا يعرف إلاّ القرآن الكريم. هذا ظلم وثورة كبيرة في وجهة المناهج وطرائق التدريس السائدة في ثمانينيات القرن الهجري الفارط. والسخط على الماضي سمة بارزة في هذا الكتاب، ذلك أن المؤلف يعزو مشاكله الصحية التي عانى منها كثيراً في مقتبل عمره؛ إنما هي بسبب ثقافة الماضي.
ولعل سبب كرهه للماضي يكمن فيما يراه من أن ثقافة الماضي تتمحور حول النقل لا العقل. لذلك هو ينحاز انحيازاً شديداً للعقل ومكوناته. وهو يرى أن العقل هو كل شيء وما سواه باطل وهو يورد هذا الشاهد الشعري:
وعقلي لو دعاني أو رماني
بقعر النار أشعر بالأمان
وهو يقول أيضاً:
الحمد لله أن العقل نبراسي
ولا تربيت في شك ووسواسي
ألزمت نفسي بالتفكير من صغري
فالله ميزتي عن سائر الناس
هل نستطيع أن نقول إنه يعيش غربة في محيطه. من الصعوبة الجزم بهذا. المعطيات والتجليات الفلسفية تقود إلى مثل هذا الاستنتاج، لكن السرد الأدبي لهذا العمل يقول بأمر آخر. لا مندوحة من القول إن المؤلف يعاني من غربة داخلية، لكنها لا تشبه غربة أبي العلاء المعري البتة. فصاحبنا على قسوة الحياة التي صورها للماضي القريب، وعلى مقدار الشك عنده، وعلى إعلائه للعقل إلاّ أنه لم ينعزل عن محيطه. فهو تخرّج في كلية، وعمل أعمالاً مختلفة، ومن خلال النصوص المبثوثة في كتابه نعرف أنه وصل إلى مستوى أكثر من جيد في حياته المادية.
ثم ينقلنا المؤلف إلى صورة ثالثة. وهو كعادته ينقلنا دون أن يجعل لنا فسحة من الوقت لنسترد بعض النفس. وهذه المرة يجعل مدار الحديث يدور على شخصين متحاورين: هو وزوجته. والشيء الغريب أننا لا نعرف حتى هذه اللحظة متى تم زواج بطل القصة، الذي هو المؤلف. نقرأ الحوار بين زوج وزوجة في وقت لا يُشير الكتاب بأي مضنة للزواج. وكأنه يتخيل أنه متزوج. وهنا معضلة فلسفية وبنائية تطال العمل برمته. هل ما ورد ضرب من التخيّل. أم أنه سردٌ واقعي. هل الأسماء على قلّتها والحوادث والحكايات والسفر والدراسة تخيُّلات أم أنها وقعت فعلاً. أجد أن المؤلف ينقلنا من ضرب إلى آخر، ويجعلنا لا نتبيّن الطريق. أما بقية الحوار فهو يشي بحتمية الزواج لا محالة.
جملة الحوار تتركز على أمرين: تكوين عائلة من بناء منزل وفرش والإتيان ببنين وبنات. وهذا الشأن سنّة من سنن الفطرة لا جديد فيها. أين الجديد. الجديد هو نعي الماضي وثقافته، وهي سمة الكتاب. حتى بناء الأسرة والصراع بين أفكاره وأفكار زوجته يتمحور حول فكرة فلسفية. وهذا لا غبار عليه. أما الغبار فهو كون المؤلف ينعى على ثقافة الماضي أبجديات الحياة التي هي سنّة من سنن الكون، لا فكاك منها.
وأمر آخر يلفت الانتباه في هذا الكتاب وهو انتصار المؤلف لرأيه مقابل آراء من سواه من معلم وقريب وزوجة وموظف حكومي. بماذا نفسر هذا الإيغال .. التفسير الممكن هو سخط المؤلف على أمرين: ثقافة الماضي. وإعلاء مكانة النقل مقابل مكانة العقل. أما الأولى فلا مجال لتفسيرها إلا كون المؤلف ينعي الماضي لكونه ماضياً وحسب. أما الثانية فقد أجد له عذراً: فهو نتاج بيئة تعليمية محافظة تعلي من النقل وتسفه العقل لدرجة محزنة. وموقفه هذا إنما يعد من باب ردود الفعل المعقولة. فقد ران زمن طويل عاش المؤلف ومن قبله عيشة لا ترى للعقل فيها مكاناً، خصوصاً في قاعة الدرس.
الكتاب صعب في قراءته، صعب في بيان موقعه من فنون التأليف، صعب في تتبُّع تجلياته. وأصعب الصعوبات هي: ما يريد المؤلف أن يوصله للقارئ. أنا أزعم أنه لا يريد التاريخ. فالتاريخ يذكره بالماضي. وهو يكره الماضي هل يريد تسجيل تاريخه هو. ربما أراد من كتابه هذا أن يكون شاهداً على العصر لكن الكتاب يفتقد لفكرة التاريخ وفلسفته. هل يريد أن يبث تجلياته وبعضاً من أشعاره والشوارد التي يحفظها. ربما فالكتاب مليء بهذا النوع من السرديات. وهو يقول: لجأت إلى الرمز ليفهمني الذكي وتضطر أحياناً إلى الرمز والهمس. هذه مشكلة عندما يعمد المؤلف إلى الرمز والهمس. فلا نحن بقادرين أن نلتمس صفة هذا الكتاب وطبيعته.
ونختم بعنوان الكتاب ومرامه. فعقل تطارده الأشباح، هو عقل غير مرتاح. لكن ما هذه الأشباح التي تطارد هذا العقل. هل الأشباح كناية عن ثقافة الماضي. ولم تلك الثقافة لا تزال تطارد العقل. أسئلة قليلة من كثيرة، لكنها أسئلة صعبة، تصدّى هذا الكتاب لبعضها، وترك البعض معلّقاً في الهواء، ومؤلِّف الكتاب ينهي كتابه ببيت من شعره وهو: ليس داع لسؤال انتهت كل القضية.
القضية لم تنته، فالمؤلف أوقد ناراً تبحث عمن يطفئها. والمؤلف أثار شجوناً تبحث عمن يكابدها ويجليها. وأنا أزعم أنّ هذا الكتاب صعب، ويحتاج إلى وقت من أجل قراءته، ربما مرات ومرات قبل أن نتبيّن مكنونه، ونجلي تجلياته، ونغوص على مراميه.