(اكتبي)، التقطت هذه الكلمة العابرة من أحدهم وقررت دون تفكير الخوض فيها.
ساعدني على ذلك قربي من الكتب وحبي للأدب وقدرتي على الصياغة في بعض الأحيان ولو بشكل متواضع.
حقيقة لم أجد صعوبة في كتابة (فتنة) في بادئ الأمر وقد انتهيت من كتابتها في أقل من شهرين، وهذا الأمر أثار استغرابي وكنت أتذكر أحاديث بعض الكتاب الذين كتبوا رواياتهم أو قصصهم في سنين.
ظننت بأنني كاتبة استثنائية وأن قدرتني على إنجاز عمل أدبي في شهرين عمل بطولي لم يسبقني إلية أحد إلى أن بدأ مشوار (فتنة) الحقيقي والذي أخذ مني أكثر من سنة + الشهرين!.
لقد أعدت كتابتها عشرات المرات، وحذفت ما حذفت عشرات المرات، وأعدت كتابة وصياغة مواقف كثيرة، وحذفت أكثر منها، وكنت إلى آخر لحظة قبل الطبع بأيام أحذف وأضيف لأن العمل في الأصل لم يكن مكتملاً، وقد اكتشفت ذلك بعد أن تركته لمدة شهر ثم عدت لقراءته لاكتشف سذاجته.. كانت أخطاؤه كثيرة، وكان به من التحفظ ما يثير الحنق. كنت اختصر المواقف والحوارات لدرجة أن الأستاذ عبده خال عندما قرأ المسودة قال لي (لماذا تضيّقين على شخوص القصة، أعط المواقف حقها، اتركي الأبطال يتحدثون، لا تكوني وصية عليهم، اتركيهم دون رقابة). أخذت بوصية الأستاذ خال وأعدت كتابة القصة مرة أخرى وكنت مرنة نوعاً ما هذه المرة، وأخذت أسير على مهل أدقق أكثر، أحاول في كل قراءة تخليصها من الشوائب، وفي كل مرة أخرج منها بحزمة لا بأس بها من الأخطاء، ولا أذكر بأنني دخلت إلى (فتنة) وخرجت منها دون إجراء تعديل مما سبب إرباكاً في بعض الصفحات وخصوصاً الصفحة 122 التي جاء فيها الحوار بين (فتنة) وعبد العزيز مبتوراً بسبب سقوط جملة حوارية مهمة أفقدت الحوار تسلسله، وهذا كله بسبب هذه التغييرات المتتالية. وحتى بعد طباعتها كنت أقول: لو كتبت هذا، لو حذفت ذاك، وألوم نفسي على تسرعي في طباعتها لأنها كانت ستولد بشكل أفضل لو كتبت في عدة سنوات.
هنا أدركت بأن كتابة الرواية أو القصة ليست بالأمر الهيّن أو البسيط، بل هي أشبة بالسباحة في محيط عميق مترامي الأطراف أو بالسير على الأقدام في صحراء الربع الخالي.
بداية المشوار:
عندما قررت المضي في الأمر وإتمامه كنت كالذي قفز من طائرة وهو يحمل على ظهره مظلة لا يعلم إن كانت ستفتح وسيصل إلى الأرض بسلام أم إنها ستبقى كما هي مغلقة وسيرتطم بالأرض ويتحطم في نهاية ذلك المشوار.
بدأت بالبحث عن أديب متمكن ليقرأ لي المسودة، وليمنحني توجيهاته أو ليعطيني الضوء الأخضر لإكمال المشوار. وبما أنني قد سبق وأجريت لقاءً صحفياً مع الأستاذ الأديب عبده خال لصالح إيلاف فقد وجدت أنه الأقرب لهذا الأمر.
معاناة حقيقية هي الوصول إلى عبده خال، فهو مشغول بشكل مستمر وبشكل غير عادي.
وبعد محاولات عدة وصلت إليه، أخبرته بالأمر وطلب مني إرسال المسودة.
بعد شهر أعدت الاتصال به وبعد (شهر آخر) وجدته:
- شو أخبار القصة يا أبا وشل؟
- الآن سوف اقرأها، اتصلي بعد ساعة.
وعلى مضض وافقت وكنت أشك بأن أجده مرة أخرى ولكني وجدته على غير العادة.
وقبل أن أسأله رأيه بادرني بسخريته الجميلة (إيش هذا فيه فالدنيا شيء اسمة بيئة صحراوية جبلية.. مين علمك جغرافيا)؟!
أردت توضيح الأمر لكنه قاطعني (شيلي هالفقرة وتعلمي جغرافيا أحسن لك).
ثم قال لي وبشيء من الاختصار في عشر دقائق: هناك قصة ولكنها بحاجة إلى كذا وكذا وكذا.
وهذا الأمر تطلب مني إعادة كتابتها للمرة الألف، ثم وبعد ذلك بعد أن تخيلت بأنني أنهيتها فكرت أن أنشرها في إيلاف خصوصاً وإنني كنت وقتها أكتب لديهم.
قمت بالترتيبات مع الأستاذ الفاضل (عبد القادر الجنابي) والمسئول في إيلاف ثم وفي آخر لحظة طلبت منه إيقاف العمل في هذا الأمر لأنني لم أكن مقتنعة بها تماماً، ثم إنني لم أطلب الإذن من الأمير خالد الفيصل بعد، وقد وجدت أن نشرها في صحيفة إلكترونية على شكل حلقات غير مجدٍ وله سلبياته.
بقيت القصة لديّ عدة أشهر أخرى وكنت خلال هذه الأشهر (أحذف وأضيف) إلى أن قررت طباعتها.
كان عليَّ قبل كل شيء الحصول على موافقة الأمير خالد الفيصل بما أن اسمة قد أدرج في القصة، وكان هذا الأمر يسبب لي أرقاً، كنت كمن سيقبل على خوض معركة وهو لا يحمل سلاحاً، (فمن هي أميرة القحطاني لتطلب من خالد الفيصل أن يمنحها اسمه)؟!!
كان هذا أصعب ما في الأمر، وكان أسهله. ودعوني احتفظ بتفاصيل هذه الجزئية من مشوار (فتنة)، فهو (كنز) أفضّل الاحتفاظ به لنفسي من باب الأنانية.
حصلت على الموافقة وبعد ثلاثة أشهر بدأت البحث عن دار نشر واستقر الأمر على (دار العلم للملايين) في لبنان، وبدأت التفاوض مع السيد (بسام عرفة) مدير الإنتاج، وقد ظل معي على الخط إلى أن سلمني مشكوراً نسخ الإهداء.
من أصعب الأمور التي من الممكن أن تواجه المؤلف هي (طباعة كتاب)، فالأمر متعب فعلاً ويحتاج إلى جهد مضاعف ومتابعة وصبر طويل جداً.
كانت هناك عقبات واجهتني وواجهت الدار الطابعة كحرب لبنان الأخيرة، فهذه الحرب أوقفت العمل بالقصة تماماً على الأقل من طرفي أنا، فقد كنت كغيري من الناس أعصابي مشدودة وقلبي مع المقاومة، وقد فاجأني السيد بسام حين اتصل بي من مقر عمله ذات يوم أثناء الحرب وفي وقت لم يكن يذهب فيه أحد إلى العمل وأخذ يحدثني عن ترتيبات طباعة القصة.
قلت له: أي قصة يا أستاذ بسام البلد تحترق ووجودك مع بعض الموظفين في المكتب أمر فيه خطورة على حياتكم!
قال: تعودنا يا ست أميرة على الحرب وبعدين شو ذنب عملاء الدار يتعطل عملهم، انتوا ما لكم ذنب في هالحرب.
وقد جعلني هذا الموقف من قبل موظف من موظفي دار العلم للملايين أتمسك بهذه الدار وافخر بتعاملي معها.
أصدقكم القول، توقف حماسي تماماً للقصة في تلك المرحلة والمرحلة التي تلتها، فقد كان منظر الناس وهم يموتون ويفقدون بعضهم البعض قاسياً جداً ويدعو للإحباط.
أخذت أتحرك بصعوبة وبغير دافع وكان السيد بسام يدفعني دائماً للأمام ويحاول إعادة حماسي للموضوع: (شو بنا يا ست أميرة يالله بدنا نخلص).
بعد عدة أشهر لا أذكر عددها استعدت بعض نشاطي ورغبتي في إتمام العمل، تخلل ذلك بعض الصعاب.. أحياناً من طرفي وأحياناً من أطراف أخرى وكان اعتصام المعارضة أحد تلك الأسباب.
قررنا الانتهاء من العمل وتبقى العنوان وكنت أظن الأمر هيّناً وسيأخذ مني يوماً أو يومين لكنه أخذ شهرين! احترت ماذا أسميها؟ لا أريد اسماً تسويقياً سخيفاً أكذب به على القراء، ولا أريد اسماً جميلاً لن يساهم في تسويقها.
وبين هذين الأمرين كنت ألعب مع نفسي لعبة شد الحبل، مرة أختار التسويق ومرة أختار الاسم إلى أن وجدت حلاً وسطاً ومريحاً في الوقت نفسه وكان اسم البطلة (فتنة) أفضل عنوان يمكن أن تحمله القصة.
وصلتني النسخة الأخيرة بعد التدقيق والترتيبات النهائية، وكان المطلوب مني التوقيع عليها لتبدأ عملية الطباعة. وقد فاجأت السيد بسام بإجراء تعديلات على القصة لخبطت كل الترتيبات التي أجراها عليها.
اتصلت به وقلت: غيرت بعض الأشياء البسيطة، سأعيدها إليك مرة أخرى لعمل اللازم.
وبعد أن شاهد أفعالي بها اتصل ضاحكاً: شو هذا يا أميرة؟ هذا مش تعديل هذا تسونامي!.
المهم بعد الانتهاء تماماً من (فتنة)، وبعد طباعتها أتت مشكلة كادت أن تقضي عليها تماماً ووصلت أنا إلى مرحلة الصفر من الإحباط واليأس رغم أن الأمر لم يتعد اليومين إلا إنها كانت أطول أيام حياتي، وتذكرت هبوطي من الطائرة ومظلتي التي أحملها على ظهري التي ربما لن تفتح، وتصورت ارتطامي بالأرض وذهاب كل شيء مع الريح بعد كل هذا العمل وكل هذه الشهور والمعاناة وكل هذا الصبر.
إلى أن جاءني اتصال من (شيخ الدار) الأستاذ الفاضل طارف بهيج عثمان المدير العام والتنفيذي لدار العلم للملايين، أتت كلماته الجميلة كحبات مطر على صدر صحرائي القاحلة، وبصوت وقور وروح حلوة:
- ولا يهمك يا ست أميرة تكرم عينك ويا أهلاً وسهلاً فيك، لبنان بلدك ودار العلم للملايين دارك وما راح يصير إلا كل خير.
وكأنه قال لي (اهبطي بسلام.. فتحت المظلة).
بعد هذه المكالمة بيوم سألني السيد بسام: كم نسخة بدك للإهداء؟
قلت: عشر نسخ تكفيني.
وعندما وصلت إليّ أخذت أفكر: يا ترى من هم هؤلاء العشرة الذين سيكونون أول الداخلين؟