العواد ومدرسة مكة النقدية:
أسس العواد ثقافته في وقت مبكر، مما أتيح له من القراءات في الآداب العربية التراثية، ثم انتقل إلى بناء ثقافة جديدة تقوم على أسلوب النثر الحديث الذي ظهر منذ مطلع القرن التاسع عشر، المعروف بعصر النهضة، ذلك أن الاحتكاك بالحضارة الغربية بدأ في هذا الوقت، بظهور الإرساليات الدينية التي أمت سواحل الشام ومدنه، وانتشرت في قرى جبل لبنان، وتنافست في اجتذاب الناس إليها بشتّى الطرق. أضف إلى ذلك نتائج الحملة الفرنسية على مصر، وصدور العديد من الصحف والمجلات التي أسسها المهاجرون الشوام، وإجادتهم للغات الأجنبية، ومن ثم الكتابة بأساليب جديدة، خالية من تنطع البلاغة الخاوية، التي تقوم على المحسنات البديعية، ورصف الكلام على ظاهره، وخلوه من المعاني الباطنية الجزلة، التي تعبر عن هموم الأمة، وتغوص في خفايا النص الإبداعي.
كانت هذه موهبة العواد الفطرية، كشاعر قد ظهرت منذ أن كان طالباً، في سن مبكرة لفتت نظر مدرسية، لكن ظهوره خارج المدرسة كان بظهور قصيدته، التي نشرها في أواخر العهد الهاشمي في جريدة (بريد الحجاز) بمناسبة صدور الجريدة المذكورة وبداية عهد تنويري جديد، بقيادة علي بن الحسين، الذي كان بعكس فكر أبيه، ومطلعها:
صاح، حي الرقي حي السلاما حي داعي الوئام حي الوئاما
واستمر ينشر شعره في الجريدة المذكورة، التي كان يرأس تحريرها الشاعر الأديب عبدالوهاب آشي، الوطني الذي لا يقل وطنية عن محمد حسن عواد، وصاحب القصيدة الوطنية المشهورة، التي نظمها في أواخر العهد الهاشمي، عندما رحل الحسين بن علي عن الحجاز، وخاب ظن المثقفين فيه، ومطلعها:
حزناً على أحوال أمتي التي ما زال يرديها الشقاق المعرق
ودافع العواد عن حكومة علي بن الحسين الذي كان يرى فيه عقلاً متفتحاً بعكس عقلية أبيه التي نقدها، لقيامها على الرمل والدجل .
وكان محمد حسن عواد مخلصاً للقيادات السياسية والوطن، ومنذ أن أصبحت جدة سعودية في رجب 1344 - 1925م، رحل إلى مكة، حيث الجو الثقافي والصحف والمطابع هناك، وكانت شهرته قد توطدت مع الأدباء قبل ذلك بثلاث سنين، وصار شعلة بينهم، بفضل تمكنه من التجديد في الأدب والنقد، ليس بوصفه شاعراً فقط، ولكن بوصفه مثقفاً شمولياً مجدداً بما وهبه الله من القدرة المعرفية، وكان الأدب في الحجاز - وفي غيرها من الجزيرة العربية - في حاجة قصوى لظهور أدب جديد متطور عن الأدب التقليدي الذي ورث ركاكة الأسلوب، وتقليد الأفكار الخاوية، ومسايرة الكاتب لما هو سائد من التخلف الفكري، وإذا أردنا أن نكون منصفين، فعلينا أن نسمي الأشياء بأسمائها، وأن نعيد السبب إلى مسبباته، وكان حماس الأستاذ محمد سرور صبان لإيجاد أدب يناظر الأدب العربي الذي ظهر في البلاد العربية المجاورة (مصر وبلاد الشام) إضافة إلى إصدارات الرابطة القلمية في نيويورك، ومجموعة الشعراء والكتاب في سان باولو، البرازيل، قد دفع به إلى تأليف كتاب يضم نثر وشعر الشباب الحجازي، وجمعه وأصدره في كتاب (أدب الحجاز) 1345 - 1926م، وكتاب (المعرض) الذي خصصه الصبان للنثر، وكان هدفه من الكتابين الرقي بالشعر والنثر عن الأساليب التقليدية، واستبدالها بأساليب العصر في اللغة وفي معاني الشعر الداخلية، وكان محمد حسن عواد من أول المرحبين بالفكرة والتنفيذ في آن واحد، فشارك الصبان في هذا المشروع، وللصبان نظرة ثاقبة في القدرات، ولم يكن المكان الأدبي فارغاً من الشعراء والأدباء، من حيث الكم، لكنه شبه فارغ من حيث الكيف، وأعني بالكيف (الفكر النقدي) فالعواد قرأ كما قرأ غيره وتعلم كما تعلم غيره، وشعر بالتخلف الذي تمر به الجزيرة العربية، كما يشعر به الكثير من الراغبين في التجديد، لكنهم لم يصلوا درجته في الجرأة والشجاعة الأدبية والثقة الثقافية فيما قرأ وتمثل هذه أو تلك من القراءات التي مارسها في بداية سني حياته، ويرى بعض الباحثين أنه يختلف في قراءاته عن الكثير من أبناء جيله، يقول سحمي ماجد الهاجري:
إنه يقرأ إنتاج الآخرين، ويستفيد منه، ولكنهم لا يستلبونه، فمن الاستلاب هرب، ويمكن الاستشهاد بحالة سلامه موسى، الذي وصفه الزركلي بأنه (كاتب قبطي مصري مضطرب الاتجاه والتفكير.
والأمر الثاني، إنه يتمتع بروح المبادرة، أو ما يسميه الآشي (تدفق الروح الحية) فحين أحس بواجبه في تنوير قومه لم يتردد في إصدار كتابه المثير للجدل، في الوقت الذي كان الآخرون يستغربون إصداره للكتاب، فضلاً عن أن يكتبوه وإن كنا نوافق الأستاذ الهاجري في استشهاده، إلا أن نقله لكلام الزر كلي ليس شاهداً يعتد به، في مثل هذا المجال، فالزركلي يتحدث عن موضوع مختلف، له مجال غير هذا. لقد وجد الصبان في هذا الفتى الشرارة التي يمكنه أن يفجرها في مستودع وقود التخلف والتقليد، وجد فيه الشاب الذي سيضحي بما عنده من فكر ثقافي لتدمير قلعة الجمود والخمول والتقليد البارد، ليقيم على أنقاضها بناء حديثاً يواكب العصر ومنجزاته الفكرية والفنية، فعزم الصبان على إصدار كتاب (خواطر مصرحة) كمجموعة من المقالات أعدها العواد من قبل ونشر الكثير منها في الصحف، الهاشمية والسعودية، وكان ظهور كتاب على هذه الشاكلة في ذلك الزمان حدثاً عظيماً غيَّر المفاهيم على قلة القراء، لكنها قلة في العدد، كثرة في النوعية، وكان ظهور مثل هذا الفكر التنويري ضرورة ملحة في بداية عهد جديد يُفتتح بمثل هذا الفكر المتنور، مع أن روح الشباب ونزقه حازت على الكثير من مفرداته النقدية، وكان بإمكانه أن يعدل من أسلوبه تجاه بعض الفئات التي عناها في ثنايا الكتاب إلا أن العواد كان عنيداً على حد تعبير الكثير من الناقدين.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244