عرفت أستاذنا وأديبنا الكبير محمد حسن عواد رحمه الله قبل خمسة عقود، وأكبر الظن أن سبيل ذلك أستاذي الكريم الفاضل محمود عارف رطب الله ثراه، الذي عرفته قبل معرفتي للعواد بنحو عامين.
وكان الأستاذ العواد يومئذ يشغل رئاسة الغرفة التجارية بجدة، واعتقد أن معالي الأستاذ محمد عبدالله رضا هو الذي وضعه في الغرفة، تعاطفاً وعوناً لأديب بارز حقيق بأن يكون في عمل مناسب يدر عليه دخلاً يعيش منه.. والغرفة يومئذ كانت مؤولياتها متواضعة محدودة، علاقتها بالتجار اشتراكات بسيطة سنوية، ومكتبها كان في الدور الأرضي بمقر العين العزيزية القائم حتى اليوم بجانب مدرسة الفلاح في حي المظلوم..
وتوطدت علاقتي بالأستاذ العواد عبر الأيام، فرأيت فيه رجلاً قوياً صلباً يعتد برأيه ووجدت فيه صفات كثيرة من خصال أديب العربية الكبير عباس محمود العقاد.. أدركت ذلك لاحقاً، بعد أن قرأت العقاد ورأيته في مصر وحضرت ندوته التي تعقد كل يوم جمعة أسبوعياً.. والعواد رجل أبي شجاع صريح عنيد قوي.. تابعت بعض معاركه الأدبية في صحيفة البلاد السعودية، فرأيت رجلاً مشاكساً صلباً، لا يهاب ولا يخاف ولا يتراجع، وهذه الخصال رأيتها في العقاد.. حتى الشعر فإن الرجلين العقاد والعواد يخضعانه للعقل وتأثير العاطفة فيه غير بارزة ولا قوية.. وليس صحيحاً أن العواد ليس شاعراً، كما قال مرة الناقد الدكتور حسن الهويمل، فرأي كهذا لا يمكن أن يكون حكماً من خلال كلمات يطلقها صاحبها، وإنما الأصل في ذلك، أن يكون عبر دراسة عامة، يقول فيها كاتب آراءه من خلال أدلة وبراهين واعتبارات ذات مرجعيات وقيمة في موازين النقد الذي يعول عليه.. وساءني بل وساء الكثير من الأدباء ذلك الهجاء المقذع الذي دار بين الأديبين والشاعرين: حمزة شحاتة ومحمد حسن عواد، وحفلت به صحيفة البلاد السعودية، فما كان ينبغي أن ينحط التهاجي حتى يصل إلى الأعراض والمحارم والسوء الذي لا حدود له وقاتل الله الغضب ومرارة التحدي والكبرياء، التي تقود إلى مسلك غير إنساني باسم الأدب والشعر، وما ذلك من الأدب في شيء.. وأنا لم أطلع على ذاك القذى، ولكني سمعت من عاصره يتحدث عنه بألم ومرارة، وسمعت أن بعض الأدباء المعاصرين لتلك المرحلة يحتفظ بهذا التهاجي، ومنهم الشيخ عبدالقدوس الأنصاري صاحب مجلة المنهل رحمه الله..
ومرت الأيام وكبر الرجلان وأدركتهم مرحلة الشيخوخة والضعف، وهما بعيد أحدهما عن الآخر، ويحدثنا الأديب الشاعر الأستاذ محمد صالح باخطمة في مشاركته عن حمزة شحاته، عبر ملتقى (قراءة النص)، في حلقته السادسة، في هذا النادي الذي يحتفي بالرواد ونماذج الأدباء البارزين.. الأستاذ باخطمة كان قنصلاً قبل عقود للسعودية بمصر، والأستاذ شحاته بحكمة إقامته في الكنانة، كانت له روابط وثيقة بالأستاذ باخطمة.. وحدث أن الأستاذ شحاتة كان في مكتب القنصل، وكان الأستاذ العواد في مصر يعالج عينيه، والأخ محمد صالح باخطمة من بره لأدباء بلاده الكبار، يلتقي بهم ويحتفي ويسعى إليهم، خاصة أبان عمله في السفارة بمصر، فزار الأستاذ العواد حيث يقيم، ثم جاء الأستاذ العواد إلى القنصلية لرد الجميل، وكان كما قال الراوي مغطى العينين يصاحبه دليله، وكان الأستاذ شحاتة عند صديقه، وقد ضعف بصره، فلا يرى إلا عبر مسافة قصيرة.. وسنحت الفرصة عند المضيف اللبق الذكي، ليكون واسطة عقد الصلح بين الأديبين المتخاصمين سنين، فعرض علي شحاتة والعواد، كل على حده: هل يمانعان في التلاقي؟ فكان الترحيب والفرحة كما قبل، وتعانقا وأعلن كل من الرجلين لصاحبه أنه أستاذه ومحل تقديره.. وهذا الموقف له أمثال، وهي لحظات إنسانية غالية جميلة، ذلك أن التصافي بر وحال كريمة وسعادة بين متخاصمين في توافه الحياة وأوضارها، حين ينزغ الشيطان بين اثنين أو أكثر، فيكون النكر، وتكون القطيعة، لا سيما حين تمتد بها الأيام، فتولد كراهية وحياة عابسة كريهة.. وإني أكبر ذلك التوفيق والمناسبة التي ساقت لقاء الأديبين الكبيرين، وحصافة الشاعر الأديب، الذي غنم تلك المناسبة العابرة ليزيل مكاره ونكراً، ما كان لتطول القطيعة بعد أن أفرغ كل من المتخاصمين ما في كنانته من جور وأذى وأسى وفجائع بين مواطنين بارزين في الأدب، ليكون ما كان، وليته لم يكن! كان بين الرجلين قطيعة منكرة مريرة حقبة طويلة من الزمن وتوارثت الأجيال الأدبية أحاديث تلك الأهاجي، تناقلها جيل عن جيل إلى اليوم بالسماع والرواية، وهم لو قرأوها لزادت حالهم مرارة ونكراً لا سيما الغير، ولحزنوا حزناً لا حدود له.. ويتحدث الأستاذ باخطمة، أن والده رحمه الله، وكان من رجال الأمن البارزين كان إذا التقى بأحد الرجلين في أم القرى يقول له: إذا لم تكف عن هذا النزيف المهلك، فسوف آخذك إلى السجن.. ونجد شيئاً من شعر العواد، الذي أنداح في تلك المعركة في ديوانه: (يد الفن تحطم الأصنام، وهو شطر من تلك الأهاجي، وإن لم يأت فيه ذكر صريح لاسم شحاتة.. وقد كان يساند حمزة كل من أحمد قنديل ومحمد علي مغربي، أما العواد فكان بجانبه الأستاذان محمود عارف وعبدالسلام الساسي وهي مساندة معنوية فقط..
ويقول العواد في خواطره المصرحة الذي كتبه وعمره لم يتجاوز العشرين سنة:
* أمامنا الوطن بحاجاته المادية والمعنوية وما يتطلبه الشعر فيها.
* أمامنا العادات والأخلاق بما فيها من فساد يتطلب النقد.
* أمامنا الحرية بأنواعها، وما يجب من تمكينها في النفوس.
* أمامنا الشرق الكسول الخامل، وما يجب من تنشيطه.
* أمامنا الطبيعة بظاهرها وباطنها، ووحيها للعقل والقلب.
* أمامنا العرب بحالتهم السياسية، وواجب الشعر في هذا المجال.
* أمامنا الغرب باختراعاته ومدهشاته.
* إذا فمالنا نرجع إلى الوراء حتى في الأدب؟ والأدب هو أول الطريق جناية، جناها على أفكارنا وأقلامنا الأولون، فطأطأنا لها الرؤوس.
* كفى يا أدباء الحجاز، ألا تزالون مقلدين حجريين إلى الممات؟ وأقسم لولا حركة عصرية في الأدب، تقوم الآن في الحجاز، بهمة لفيف من أحرار الأدب العصري الحديث، لما عرف العالم شيئاً في الحجاز، يدعى الأدب الصحيح.
في وقت مبكر، شرع الأستاذ محمد حسن عواد في دعوته الإصلاحية وتحمل في سببها الكثير من العناء، وجاهد للمشاركة بالدعوة إلى النهوض بالوطن وأهله في شتى سبل الحياة، وبث رأيه في قضايا الأمة العربية لا سيما التي كانت تحت نير الاستعمار والاحتلال، مثل الجزائر وفلسطين وغيرهما، وحول النهوض بالوطن وأهله في شؤون السياسة والاجتماع والتعليم والثقافة نراه يقول:
صاح حي الرقي، حي السلاما
حي داع الوئام، حي الوئاما
حي عصر النهوض، حي التعالي
حي بالمجد أمة تتسامى
ويقول العواد: اعملوا للبلد، ويدعو قادة وطنه إلى النهوض بالوطن، فقال: اعملوا لبلادكم كما تعمل كل الأمم في داخل بلادها وخارجها أعمالاً مختلفة الألوان، ولكنها متحدة الغاية، فالعمل السياسي، والعمل الصناعي، والعمل العلمي، والعمل الأدبي، كلها في الأمم الشاعرة خطوط مستقيمة.
اعرفوا قيمة الوطن كما تعرفها الأمم.. وجهوا النظر الأقصى إلى التعليم، وأوجدوا تعليماً منظماً سامياً، يضمن سد حاجات البلاد بكفاءة أبنائها.. هذه الدعوة إلى النهضة جاءت في وقت مبكر، لأن أديبنا وعى ذلك منذ حداثة سنه وعبر تطلعه ومطالعات في نهضة الشعوب خاصة في الغرب.. إنه طموح رائد بان طموح متوهج الفكر ونفس عالية.. وهو في بعض ما كتب، يدعو مواطنيه إلى تأكيد القول بالعمل، انطلاقاً من قول الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(2) سورة الصف. وقول من لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم: لا قول إلا بعمل، قال العواد: لا نريد ثرثرة الأفراد باللغو، والدفاع عن النفس من طرق ملتوية حمقاء، هي طريق التعريض بالغير..
كما كان يدعو إلى وحدة الأمة العربية، وهي تربطها وشايج قوية من العقيدة واللغة والأرومة، فقال في ديوانه الأفق الملتهب:
أحب الجزيرة والموطنا
ومستقبل العرب أن يعلنا
أحب الحجاز
أحب العراق، أحب الشام ومصر
ولبنان والأردن،
أهوى عُمان، إلى حضرموت، وأهوى فلسطينا
أحب بلادي بأسمائها، وألقابها وتقاسيمها
وأعشقها دون تلك الحدود
لعدنان تنسب أو يعرب
وتغدو وقد ضمها الاتحاد
عزائم من مهج العاملين
لها قوة من وراء الصفوف
تحث خطاها لتقديمها
وأديبنا الكبير من أوائل من دعا في بلادنا إلى تعليم المرأة أن تكون في محاذاة الرجال لطلب العلم والعمل مما يتوافق مع خصائصها بعامة، تشارك في بناء الوطن بفاعلية وأيد.. ويخاطب المجتمع النسائي بقوله: فكرن كيف تخدمن بلادكن ليزداد رصيدها من الحضارة، طالبن قومكن وآباءكن برفع مستوى النساء.. إن حقوقكن في العيش توصي بحقوقكن في التقدم، فمن الواجب إذا أن تكون لكل مثل هذه الألسنة الناطقة لتنطق ألسنتكن بما يدور في قلوبكن من الخير، من هذا الخير الكبير، تنلن الحياة في الوطن العزيز.. أنتن أمهات المستقبل.. وهذا الوطن أمكن الأولى الكبيرة الشاملة..لا ندعوكن إلى التبرج، ولكن ندعوكن إلى الانطلاق في ميدان الكفاح الشريف.. ولتكن هذه أولى الخطوات المباركة إلى خلق مجتمع رشيد يحطم الجهل والفقر والذل والظلام، اعملن حسناً فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً.
قلن للرجال بدون تهيب
نحن لا نريد تقدماً، لا تمرداً (1)
إن كتاب خواطر مصرحة لأديبنا الكبير، ثورة على الجهل والتخلف.
وعن التطور يقول العواد: التطور هو الدورة الدموية في جسم الحياة الاجتماعية، وعلى أساسه تفتحت الحياة عن أروع معطياتها، بل عن كل ما فيها من المعطيات، فالفكر إذا لم يتطور لا يستطيع أن ينتج والشعور إذا لم يتطور لا يتمكن من ارتشاف جمال الحياة، والعمل، بكل صنوفه وأشكاله إذا لم يتطور لا يصل إلى القمة، وربما لا يصل إلى النجح السليم (2).
(1) خواطر مصرحة، ص 114
(2) طريق التطور ص 192، تأملات في الأدب والحياة
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244