(إن الخطابات الإصلاحية هي نبوءات أخرى!)
أعتقد أننا لا نستطيع عندما نتحدث عن العواد أن نتجاوز تقويم الغذامي للعواد ولخطاب خواطر مصرحة، يقول الدكتور عبدالله الغذامي في كتاب حكاية الحداثة.
(ولسوف يكون محمد حسن عواد هو الأكثر حسا وحماسا لتفهم شرط التحول، وجاء كتابه خواطر مصرحة الذي صدر في الوقت ذاته بوصفه جوابا وبوصفه مشروعا في التطوير) -ص25-
إذن الغذامي يقر أولا بتوافر وعي العواد الذي مكنّه من تفهم ووجوب إحداث تحوّل في المجتمع، وإصدار برنامج أو مشروع يعبر عن ذلك الوعي الثوري، وتصميم هيّكلة نموذج تطوير المجتمع.
لكن كيف يقوّم الغذامي روح وشكل المشروع التطويري الذي قدمه العواد عبر تاريخه عامة وخطاب الخواطر خاصة؟
عندما يقارن الغذامي بين شحاتة والعواد كرائدين، فهو يرى أن هموم (شحاتة فكرية نظرية) في حين أن (هموم العواد إصلاحية اجتماعية)، وباستخدام لفظة هموم يعيدنا الغذامي مرة أخرى إلى مسألة الوعي الثوري للعواد، (أكثر حسا - حماسا - تفهما - جوابا - هموما) كلمات تعبر عن سعة الوعي الثوري، ومهما بلغت من عمق دلالي وشمولية فهي لا تتجاوز التصور الذهني للمثال أو كما يصفها بحزمة نوايا، الذي يمكن في درجة من درجات تعقيداته الذهنية يُدخل المبدع في عالم الوهم!
كما أن الغذامي يحصر محتوى المشروع التطويري للعواد في خانة أحادية هي خانة الإصلاح الاجتماعي وهذه الحصرية بدورها تُخرج العواد من دائرة التجديد والإبداع، وهو ما يصرح به الغذامي عندما يقرر أن يختار شحاتة ليطبق عليه مشروعه النقدي التأويلي.
فهناك يظل الفرق شاسعا بين مصطلحي الإصلاح والتجديد، فأولهما إعادة صياغة الذهنية الاجتماعية، وثانيهما خلق للذهنية الاجتماعية، وأعتقد أن مساحة الفرق واضحة بين دلالتي المصطلحين، وهذه الحصرية التي خنق بها الغذامي محتوى مشروع العواد التطويري داخل إطارها، يلغي بدورها، الفكرة الأساسية التي بنى عليها العواد خطابه الفكري عامة والخواطر خاصة وهي فكرة الخلق، وبذا فالغذامي من خلال هذا التقويم يهزّ قاعدة المشروع التطويري للعواد، الخلق والإبداع، التي يبدو أنها فكرة لم يقتنع بها الغذامي.
ثم إن الغذامي وفق جدُولة التنصيف السابق لكلا الرائدين، يحاول أن يضبط خط سير كليهما التطويري، بل ويفعل ما هو أعمق من ذلك، عندما يقيس ارتفاع الأثر الناجز بين قاع النظرية وسقف التطبيق، لكنه يكتشف هشاشة القاع التي لم تقدر على تثبيت ارتفاع يضمن إقامة حدّ أدنى من السقفية، لإعلان وجود أثر للصوت الناتج عن الوعي.. سواء للعواد أو شحاتة والذي لا يغفله الغذامي على مستوى ودرجة من التقدير المعنوي، كما أنه لا يتجاوز محيط ذلك التقدير، الذي يظل الغذامي يؤكد عليه، مقابل إثبات خلو الأثر.
إن المسألة تبدو عنده كالأشكال المرسومة الفارغة!
كل شكل يحجز مساحة بسعة معينة، لكل هذا لا يعني أن كل مساحة مضمومة داخل خطوط أنها تحمّل محتوى يقدر على تحريك المساحة التي يحجزها.
وهذا ما جعل الغذامي يصف محتوى خطاب خواطر مصرحة للعواد بأنها مجرد (حزمة من النوايا الطيبة.. لقد كان طيب النوايا وصادقها، وكان ذا حس مخلص لقضية التجديد، وتحمس لها.. وأيد المرأة وتحمس لها.. وقضايا الإصلاح الاجتماعي) -ص62- إذن العواد لا يقدم لنا سوى أشكال مرسومة لوجوه وأصوات، لكنها لا تقدر في النهاية أن تكون صورة كاملة الملامح!
يعود الغذامي ليؤكد على سعة التصور الذهني للوعي عند العواد، فكل ما يحمله العواد ليعين حلم مشروعه التطويري على الحركة والأثر، مجرد حلم آخر.. حلم من خلال حلم.. مجرد استعداد للرفض وقبول للتجديد وتدعيم للتغيير.. مجرد وعي.. مجرد تصور.. وقد يكون مجرد (وهم)، وهنا كما يقول الغذامي: (تكمن مشكلة هذه الريادة التي لا تتوفر فيها شروط الريادة التأثيرية، وكلنا ندرك أن جيلنا الذي كان جيل تفتح وطني وقومي وثقافي لم نكن ننظر للعواد بأي منظار رمزي.. ولم يكن العواد ولا جيل العواد في حسباننا بأي حال من الأحوال، لا رجالا ولا نصوصا ولا مقولات) -ص63-
إن مأزق الريادة في تأريخ الثقافة السعودية، هو مأزق ناتج عن القراءة الخطأ للمجتمع والزمن والأفعال وردود الأفعال، قراءة تكتفي بالجهة الأصخب للصوت لأنها هي التي تشدّ الضوء، إن لعبة الصوت والضوء التي اعتدنا أن نحرك داخلها صور الريادة، هي التي تدفعنا إلى التقدير الخاطئ لناتج القيمة، وبالتالي يختلط على الرؤية خداع الصوت والضوء وحقيقة الأثر، تلكم هي مشكلة الريادة لدينا، إنها ريادة غير مُنّجزة، (لا تتوفر فيها شروط التأثيرية)، كما يقول الغذامي، يعني:
ريادة ورواد بلا منهج.. بلا طرائق.. بلا آثار.. وبلا جيل، وأي مشروع تطويري في ضوء عدم توافر الشروط التأثيرية السابقة طرح على موائد الرواد، يرى الغذامي أنه (مجرد شاهد تاريخي)، إذن هذا هو التقويم الأخير للمشروعات التطويرية للرواد عامة والعواد خاصة في رأي الغذامي، وللغذامي تبريراته الموضوعية والمنطقية لذلك التقويم، لأنها ظلت خطابات ومشروعات وبرامج (لم يكن لها دور تأثيري أو تغييري) -36ص- إذن مقياس نجاح المشروع التطويري والخطاب الإصلاحي عند الغذامي هو إحداث تأثير أو تغيير، كما أنه هو ذات المقياس الذي يُدخل صاحب المشروع أو الخطاب إلى دائرة الريادة، فهل هذا المقياس الذي يحسم تقويم المشروع التطويري بأنه مشروع ريادي، ويعلن ريادة صاحبه، قد توافر في العواد وفي مشروعه التطويري وخطابه الإصلاحي؟
كما يرى الغذامي لم يتوفر لسببين أحدهما يتعلّق بالناتج والآخر يتعلّق بالعواد نفسه، فيقول الغذامي (وهذا ما يفسر دوام سيطرة الذهنية المحافظة لأنها لم تجد من يتحداها داخلياً.. وفي المقابل فإن الحماسات المخلصة للعواد لم تكن بكافية لتأسيس وعي نظري أو إبداعي فاعل لضعف مادته وتواضع معطاه، ولعدم إحساسنا به بسبب وجود وعي ثقافي عربي متصل بنا ومتفاعلين نحن معه ولم تكن تجارب العواد على مستوى مجاراته أو منافسته) -ص63-
إذن يقوّم الغذامي ناتج المشروع التطويري للعواد بناء على مدى قدرة المشروع التطويري على تعديل أو تغيير المستوى النوعي للقيمة النسقية للعقل الجمعي وسلوكياتها، أو ما يسميها (الذهنية المحافظة) لكن مشروع العواد فشل في تحقيق تعديل القيمة النسقية للعقل الجمعي، بدليل بقاء سيطرة الذهنية المحافظة على المجتمع وخروج العواد من دائرة التحدي بين قيمتين نسقيتين مختلفتين، أما السبب الآخر لفشل العواد في مشروعه التطويري، فهو العواد ذاته، لأنه في نظر الغذامي لم يكن مؤهلاً لقيادة أي مشروع تطويري أو تجديدي أو إصلاحي، لأنه اعتمد على نوايا وحماسات لم تكن كافية لتأسيس وعي نظري أو إبداعي فاعل، ولضعف مادته وتواضع معطاه، إن الوعي الذي يقصده هنا الغذامي هو وعي تصميم وصناعة الإنجاز وهو مقياس ريادة المشروع التطويري، لا وعي الإدراك، إن وعي الإدراك هو وعي متوافر عند أغلبنا، وعي يقوم على القدرة على تصنيف جداول الصواب والخطأ، لكن الوعي الذي يميز صنّاع المشروعات الريادية هو وعي مختلف لا يمنحه الاستعداد بمفرده ولا التجربة بمفردها ولا التأهيل بمفرده، إنه وعي ينبئ المرء بالمستقبل ويرشده إلى كيفية التعامل معه وكيفية إقناع المجتمع والتأثير عليه، نعم إن الخطابات الإصلاحية هي نبوءات أخرى!
لأن فكرنا ومعرفتنا للأشياء تحتمهما الأوضاع الاجتماعية والتاريخية التي تحيط بنا، وهو أمر ضروري أثناء السعي لإنتاج مجتمع، أي التكوين الكلي للحقيقة الاجتماعية، القادرة على خلق تكوين الوعي الاجتماعي، وإيجاد حركة من التنظيم والتحسين والإصلاح، وهذا لا يتم إلا إذا تبلورت فكرة الإنتاج من خلال (مشروع ثقافي) أي فاعل اجتماعي جمعي، يمثل قوة ديناميكية اجتماعية، لا مجرد نشاط ثقافي لمجموعة من الأفراد، كما أن الغذامي يرى أن العواد مجرد (رجل جاء وذهب) فكما أنه لم يؤثر على الذهنية المحافظة في زمنه ومات مشروعه التطويري بانكساره وذوبانه، لم يكن له أيضاً أي أثر إبداعي أو فكري على أجيال المثقفين بعده ولا على تفعيل أي تحوّل في ذائقتهم الإبداعية أو تاريخهم الفكري، لعدم معايشة الجيل لوعيه الثقافي، ذلك الوعي الذي يصفه الغذامي بأنه لم يكن على مستوى التحدي والجدة والجودة للوعي الفكري العربي الذي عاصر العواد فغلبه، لكن هذا لم يمنع ثلة من المثقفين أن يركضوا وراء أفكار العواد الإصلاحية والأدبية لكي يقرؤوا ملامح الوعي الذي تخبئه أفكار العواد، بما فيهم الغذامي.
وهكذا يمنهج الغذامي مأزق تأريخ الريادة السعودية، وفق أربعة أخطاء تفكيرية يمارسها الاستقراء التصنيفي لدينا هي، القراءة الخاطئة للفعل وردته، ضجيج منطقة الصوت والضوء، خداع الأشكال الفارغة، وغياب الأثر -الإنجاز والتابع- والتأثير.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* (من ورقة ألقيت في ملتقى قراءة النص السابع)