في قصيدة غازي القصيبي (كريستينا) نحن إزاء قصيدة محتدمة بالحركة والعواطف المتقدة: عاشق/ شاعر يرى معشوقته تراقص رجلاً آخر وتمنحه كل ما لديها من مفاتن، بينما يجلس العاشق/ الشاعر عاجزاً عن الحصول على ما يحصل عليه الآخر؛ لأن الفتاة تعدُّه مثل أخيها:
طالما ناديتني (أنت أخي!)
ولهيب الصدر يهتز أمامي
أأخٍ.. والرغبة الخرساء في
شفتي تسخر من زيف الكلام؟
هذا الموقف الذي يذكّرنا بنزار أو بعمر أبو ريشة؛ الشاعرين اللذين يلوحان في أفق كثير من قصائد القصيبي في هذه المرحلة، موقف ما يلبث أن يتراءى مختلفاً عما لدى الشاعرين العربيين الآخرين. كريستينا ليست مجرد امرأة جميلة أخرى، وإنما امرأة أمريكية أو من الغرب المعاصر كما يدلّ الاسم وسياق قصائد أخرى مثل (لوس أنجلس). هذا بالإضافة إلى الأجواء العامة للقصيدة؛ فالمكان قاعة للرقص لن يعثر عليها الشاعر أو يستطيع تخيلها في وطنه أو بيئته الأصلية، لا هي ولا أجواء الحرية السلوكية التي تسمح بتلك الانطلاقة في أجواء العشق.
في كريستينا تتمثل لوس أنجلس بكل ما فيها من مغريات ومنفرات، وإن اتخذ ذلك سمات مغايرة في شخصية الأنثى: رفض العشيق بدلاً من الانحطاط الأخلاقي. هنا لا يتردد العاشق عن التعبير عن ولهه بحرية أكبر:
آه من ثغرك.. من روض على
كرمه يغفو غدير من رحيق
شفق تنبض في حمرته
رقة الورد.. وأهوال الحريق
يرتمي عمري عليه دمعة
من حنين أبكم الجرح.. عميق
وأرى فيه اشتياقي قبلة
سكرت وجداً.. فضلت في الطريق
أليس ضلال الطريق هنا تكرار للضياع الذي قرأنا في (لوس أنجلس)؟!
سأكتب عن ضياعي فيك..
عن فتياتك الحلوات
وكيف تغلف الكذبة
في ثوب من البسمات
لا بد من التسليم بأن الحضور الطاغي للأنثى في قصيدتي القصيبي يقلل من أهمية البعد الثقافي، لكنه لا يلغيه أو يحلّ محله؛ فالأنثى والمدينة يكادان يتماهيان ويشدان العاشق إليهما في حين هما يمثلان الحضارة الغربية بما فيها من مغريات ومنفرات في الوقت نفسه.
أحد الباحثين رأى أن ما كتبه القصيبي عن لوس أنجلس يندرج ضمن موقف الشاعر تجاه المدينة الغربية، الموقف الذي اكتسب (طابعاً مختلفاً عن المدن العربية) التي قابل الشاعر بين بعضها وبين القرية في بواكير تجربته الشعرية فرفضها على هذا الأساس.
المدينة الغربية مدينة يعجب بها الشاعر كما هو الحال في لوس أنجلس (إذ كل ما فيها يستحق الإعجاب والكتابة عنه)، لكن الباحث نفسه يعود ليتبيّن أن الشاعر يغيّر موقفه إزاء لوس أنجلس حين يقابلها بالقرية، فهي عندئذٍ قاسية متحجرة القلب.
والواقع هو أن لوس أنجلس، كما هي لندن في قصيدة كتبت في مرحلة تالية، تمثل ليس المدينة فحسب، وإنما الحضارة الغربية التي تطورت من رحمها، ورفضه لبعض وجوه تلك المدينة يمثل موقفاً ثقافياً أو حضارياً رأينا كيف يبدو ثم يتجاور إلى جانب الإعجاب المشار إليه.
هذه الصورة الكئيبة للمدينة الغربية تختلف عما نجد لدى شعراء الخمسينيات الذين سبقت الإشارة إليهم بقدر ما تأتلف مع ما نجد لدى شعراء المرحلة التالية؛ مرحلة السبعينيات والثمانينيات، المنتمين حسب المصطلح المتداول إلى مرحلة الحداثة، وهي تسمية غير دقيقة إذا أخذنا منجزات المراحل التي سبقتها. ولعل المفارقة هي أن مرحلة الحداثة هي المرحلة التي يتوارى فيها حضور الآخر الغربي بشكل ملحوظ كما سبق أن ألمحت، فمع أن الغرب لا يتحول إلى حضور مرفوض تماماً، كما هو الحال في التصورات الدينية المتشددة، فإنه يسفر عن وجه أكثر قتامة من تلك التي رآها أبو حيمد والرميح أو التي راودت القصيبي عن نفسها في بعض نصوصه الأولى.
سأكتفي هنا بمثال من قصيدة لأحد شعراء الثمانينيات هو محمد الدميني حول مدينة غربية/ أمريكية شهيرة أخرى هي نيويورك. أهمية القصيدة تأتي من حيث هي تبرز تصوراً للآخر كاد يعمّ تلك المرحلة، ومن حيث هي أيضاً ترينا أن ذلك التصور ليس غريباً على الخطاب الشعري العربي إجمالاً؛ فقصيدة الدميني تتكئ على نماذج شعرية عربية سابقة، لعل أشهرها قصيدة أدونيس (قبر من أجل نيويورك).
قصيدة الدميني بعنوان (كتابة نهارية عن ليل نيويورك)، وفيها رسم لغربة الشاعر في المدينة العملاقة والموحشة في الوقت نفسه. ومع أن القصيدة تحفل بمشاهد متعددة من الحياة الأمريكية النيويوركية فإن الدميني يستعيد مع الحياة القاتمة فيها وجهاً مضيئاً يتمثل في الشاعر الأمريكي المعروف وتمان. بيد أن ذلك الوجه المضيء لا يلبث أن يتكشف عن مزيد من القتامة؛ فنيويورك لم تكن مدينة وتمان فحسب، وإنما قبره أيضاً:
ما جئت أبحث عن معاني
السلم
في قاموسك المصنوع من سقيا
دمارٍ،
لم تكوني غصن (ويتمان)
ولكن كنتِ قبره
هذا الموقف إزاء نيويورك وأمريكا بشكل عام هو ما نجده لدى شعراء عرب وأمريكيين، بل إنه ما عبَّر عنه غير شاعر غربي من غير الأمريكيين؛ مثل الروسي ماياكوفسكي والإسباني لوركا، قبل الشعراء العرب بنصف قرن تقريباً. وتوارد المواقف شاهد على موقف إنساني تجاه ما تمثله الولايات المتحدة في العالم من إنجاز حضاري وثقافي هائل من ناحية، وما تستدعيه من كراهية سياسية عارمة من ناحية أخرى.
غير أن تشابه المواقف لا يخفي وجوهاً من الخصوصية لدى الشاعر العربي تتجلى من خلالها إشكاليات عربية محددة لا نجدها في الموقف إزاء أمريكا بشكل عام لدى شاعر روسي أو إسباني أو أمريكي. من وجوه الخصوصية العربية تلك توقُّف الشعراء عند ظروف سياسية تؤرق العالم العربي وتمثل أمريكا فيها طرفاً أساسياً (مثل قضية فلسطين)، كما أن منها استعادة الشعراء في خضم مخاطبتهم لأمريكا أو إحدى مدنها (نيويورك بالدرجة الأولى هنا) المعالم الجغرافية والثقافية للوطن العربي البعيد ومحن الاغتراب عنه وما يعنيه ذلك للهوية المهددة. نجد ذلك لدى أدونيس مثلما نجده لدى سعدي يوسف في بعض قصائده. وهو أيضاً ما نجده لدى محمد الدميني الذي لا يستعيد بيروت أو البصرة، لكنه يستعيد (الجزيرة) العربية من خلال صحرائها ومن خلال مفردات (الإبل) و(الخزامى) و(حر الوغى)، وهذه الأخيرة تحضر بدلالة مزدوجة ومتناقضة فيما يبدو؛ فهي من ناحية تذكّر بمعاناة الشاعر في المدينة الأمريكية التي تتحول إلى ساحة حرب، في حين أنها أيضاً جزء من هوية الشاعر الثقافية على النحو الذي لن نجده بطبيعة الحال في قصائد لغنزبرغ أو لوركا أو حتى أدونيس في هذه الجزئية.
لكن الالتصاق بالهوية يحمل دلالة ثالثة هي أن الشاعر يعيش حالة متوترة مع الآخر تجعل حضوره وتمثيله والتفاعل معه أكثر إشكالية وصعوبة مما كانت عليه في الخمسينيات لدى شعراء مثل أبو حيمد والرميح أو القصيبي في بداياته. إنها المتغيرات التاريخية دون شك تترك أثرها على لغة الشعر وأخيلته وهمومه مثلما تتركها على قدرة الإنسان على التفاعل مع الثقافات الأخرى وكيفية تمثُّلها.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5135» ثم أرسلها إلى الكود 82244