في ظل توجس شديد يقارب الرهاب من أية تغييرات قد تطال وضع المرأة في المجتمع السعودي، يزدحم المشهد الثقافي بعدد كبير من الروايات التي تتضمن وتحيل على إشكالات سسيوثقافية يحبل بها الأفق الاجتماعي السعودي. هذا الأفق الذي انفتح رغماً عنه - نتيجة للمد الفضائي والاختراق الثقافي وعوامل أخرى - على رؤى مختلفة تتعلق بالمرأة، والحياة الاجتماعية، والعلاقة بين الجنسين إلى آخر هذه الإشكالات التي صنفت ولا تزال تصنف في خانة التابوهات والمحظورات.
وفي الحقيقة أن مجرد مقاربة وتناول هذه التابوهات يعد نوعاً من التحدي الجارح للخصوصية الثقافية السعودية، بما تمنحه هذه الخصوصية من حماية للرافضين لأية تحولات قد تمس ما يعتقدون هم بوجوب ثباته وبقائه على حاله. وهذا الازدحام الروائي والتعدد في تناول ومقاربة هذه الاشتغالات الشائكة دليل على اضطراب واضطرام في البنية الاجتماعية السعودية وكأن مارداً جباراً يريد الخروج من القمقم، ليثبت وجوده ويعزز كينونته رغماً عن أنف تلك الخصوصية المبني جلّها على عادات وأعراف التبست بالدين وتمسكت بأهدابه وهو منها براء.
يتراوح الطرح الروائي - والذي تجاوز الأربعين رواية في العام المنصرم - ما بين ضعيف وسطحي يقارب الإشكاليات دون قدرة على الإيغال عميقا في ملابساتها وتفاصيلها، إلى متوسط يتعمق قليلاً ولكنه لا يضع يده تماماً على أصل الوجع، فيما تصل قليل من الطروحات بعيدا لتشّرح وتكشف وترصد قضايا شائكة محاولة دق أجراس الإنذار ورفع حجب التعتيم.. ويبقى في هذا الازدحام على تواضع معظمه وتفاوت جودته فوائد جمة، ويكفينا أنه يحرك راكداً ويوقظ ساكناً ويثير أسئلة طال إلجامها.
ولكن هل يكتب الروائي أو الروائية وهو يرمي إلى التغيير وإلى تثوير المجتمع ودفعه إلى الخروج من كهف العادة التي ألف عتمة ظلماتها؟ وهل بإمكان الرواية إحداث تغيير وتحول اجتماعي؟ وهل الكاتب مصلح اجتماعي أم أنه راصد للواقع ومتابع للحقيقة وكاشف لمجاهلها التي تمر على سائر الناس مرور الكرام، ولكن الكاتب وحده قادر بعينه المجهرية على القبض عليها وإلباسها ثوب اللغة وإيداعها سطورها؟
في تقديري أن فعل الكتابة يخرج من اللاوعي في محاولة للمصالحة بين الذات وتناقضاتها.. وبين العالم الخارجي بما يحفل به من قسوة وظلم وألم وغربة يجد المبدع نفسه محاطاً بها من كل جانب؟ وقد يرى فيها الكاتب وسيلة للتداوي من الأوجاع عن طريق تحريرها وإعادة معايشتها على الورق، وإخراجها من متاهات ذاته حروفاً وكلمات تنطلق من لا وعيه لتقوده إلى طريق الانعتاق والتحرر! وهي في حالات كثيرة ليست تعبيراً عن الواقع وحقيقته، بقدر ما هي تعبير عن الحقيقة وقد تفاعلت مع ذات الكاتب، فيتولد عن هذا التفاعل حقيقة بديلة تقارب الواقع ولا تحاكيه تماماً، بل تحاول مباغتة لتمسك بتلاليب حالة معينة أو لحظة محددة ثم تضيف عليها من ذات الكاتب ومن رؤيته الشخصية. وحين تصل الكتابة إلى تخوم الإبداع الحقيقي فإنها تنسل من ذات الكاتب ومن لا وعيه، دون أن يدرك هو ماهية ما يفعله ودون أن يعرف أنه يروم تغييراً للمجتمع أو ثورة على عادته وممارساته المجانبة للصحة.
يقول محمد برادة لصديقه محمد شكري في رسائل يحاول فيها الأول تحفيز شكري على الكتابة فيقول له: إن الكتابة وهم بديل يشكل وسيلة لفهم العالم والناس وهي أيضاً تعويض عن حرمان ما. بينما يقول واسيني الأعرج الروائي الجزائري المبدع: إننا عندما نكتب نتقاسم مع الناس أوهامنا وهزائمنا الصغيرة، لا ليس هذا فقط، الكتابة التي لا تدخلنا غمار الحلم ليست كتابة!
في تقديري الشخصي أن الكتابة انفتاح على الحلم ورغبة في برعمته وتخليقه، وهي رغبة في خلق تغيير سواء اعترف الكاتب بذلك أو أنكره. وأرى أن الروائي السعودي كما الروائية السعودية يهجسان بالتغيير ويتوقان للانعتاق من رؤى اجتماعية مغلقة أطبقت بخناقها على المجتمع. وإن كنت أرى أن هذا الهاجس يسكن الروائية السعودية بصورة أكبر كونها الأكثر تضرراً من سيادة هذه الرؤى المتوالدة غالبا من رحم العادات والتقاليد. وهي إذ تسلط الضوء وترصد أحوال المجتمع وما يوجد فيه من قتل للفردانية واكتساح للأبوية القبيلة ومن ظلم وتمييز متعدد الأصناف، تريد التغيير وإدارة مفصل التحول الاجتماعي إلى حيث التحرر من ربقة قيود أحكمت بخناقها على الفرد والمجتمع بشقيه الأنثوي والذكوري.
وعلى سبيل المثال في عنوان رواية ليلى الجهني الصادم (جاهلية) ما فيه من دلالات تحيل إلى مجتمع يحتكم إلى الجاهلية ولا يلق بالا إلى تعاليم الدين الحنيف الذي جاء ليساوي بين البشر ويقضي على التمييز بكافة أشكاله سواء منه العرقي الذي يشكل حجر الزاوية في الرواية، أو سلسلة التمييزات الأخرى المتناسلة بعضها من بعض والتي تعيدنا إلى الجاهلية الأولى! وجاهلية ليلى لا تكتفي بالمروق إلى دواخل المجتمع السعودي لتستعرض مفرادت هذه الجاهلية وتقرر بشاعتها وتحدد صنوف التمييز التي تتحكم في أفراد المجتمع! بل تذهب بعيداً إلى حيث الوجع العربي المزمن من خلال خطين متوازيين في السرد، لتستعرض بشاعة الجاهلية الحديثة القائمة على الهمينة وانتهاك الأراضي واستغلال ثرواتها من قبل محتل غاشم!
وهنا لا بد أن أعيد سؤالي الأول هل بإمكان الرواية أو العمل الفني إحداث تغيير وتحول اجتماعي؟ وهل إثارة الأسئلة في حد ذاته كافياً لتأجيج وتحريك المجتمع ودفع دفة التغيير؟ وهل تسليط الضوء وتشريح ورصد أحوال المجتمع كفيل بتحريك النائم؟ وهل إلباس الأفكار ثوب بشري من لحم ودم قادر على تقريبها من عواطف الناس وبالتالي دفعهم لرفض وتغيير واقعهم السيئ؟
يبدو الحلم في وقتنا هذا عصياً وبعيداً عن المتناول، ففي ثقافة تحاكم فيه أطروحة أكاديمية نقدية تستعرض صورة الرجل في الرواية النسائية لطالبة ماجستير في إحدى الجامعات السعودية العريقة ثم تدان دون أن يكون لها حق الدفاع عن نفسها!! لتتحول المناقشة العلمية ما بين غمضة عين وانتباهها إلى جلسة وعظية بعيدة عن المنهجية العلمية، لا بد أن يتوارى الأمل وينسحق الحلم فالرؤية الأحادية هي المهيمنة حتى في المعاقل التعليمية والتي يفترض أنها محضنٌ للمنهج العلمي وراعية له!!
رغم كل هذا لا بد أن نتمسك بأهداب الحلم ونزرع علّ أجيالاً أخرى تجني ما تعبنا في غرسه وكما يقول الكاتب الروسي أنطون تشيخوف: (لقد أردت فحسب أن أقول للناس بصدق وصراحة: انظروا كيف تحيون حياة سيئة مملة. فأهم شيء أن يفهم الناس ذلك، وعندما يفهمون سيشيدون حتماً حياة أخرى أفضل.. حياة مختلفة تماماً لا تشبه هذه الحياة، وحتماً لن أكون شاهداً عليها).
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7446» ثم أرسلها إلى الكود 82244