في إطار التواصل الثقافي، وفي الحفل الافتتاحي لمهرجان عنيزة الأول للثقافة والتراث المنعقد مساء يوم الاثنين 21 ربيع الأول 1428هـ، تفضل صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة القصيم ونائبه صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن مشعل بن سعود ولفيف من الرواد والأعلام والأدباء والكُتاب بإحياء ذكرى عَلَم من أعلام مدينة عنيزة، هو رجل التربية والتعليم، الأديب والمفكر الراحل، العم والمعلم الفاضل عبدالرحمن البطحي - تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه ووالدي وجميع أموات المسلمين فسيح جناته... آمين.
وإن نجد الأرض بنبت طيب ينتشر عطره الفواح لينتفع به الناس وذوو النهى، فهذا أمر ليس بجديد، لقد اختار الله عز وجل هذه الأرض الطيبة لتكون تربة غرسه، والغرس لا يكون إلا في تربة ومناخ صالحين لنمو الغرس المفترض، ذلك ميزان البشر، فما بالك باختيار الحكيم الخبير، وشُرفت بلادنا باستقبال رسالة الله الخاتمة والخالدة، دعوة العلم والتفكر للعالمين، وكان أول ما جاء به التنزيل على النبي الأمي (اقرأ) ليقول للبشر إنه الخالق وحده وموجد الحياة بكافة أشكالها، وإنه القادر على محو ظلام الجهالة وإبداله بنور العلم من خير معلم وأول معلم للبشرية جمعاء؛ إذ مد الوجود بأسبابه ووسائله ومنها القلم الذي يخط ويسجل لينقل العلم عبر الأجيال؛ لأن ذاكرة الحفظة قد يعتريها الوهن، وهو الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والمعلم الذي يغرس العلوم في النشء فيترعرعوا نماءً ويكون لهم فيء يستظل به من يأتي بعدهم من الأجيال.
فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم صفوة المجتمع الذين اختارهم الله لحمل مشعل النور لرسالة خالدة هي رسالة العلم، وللعلم دوره في معرفة الخالق عز وجل، وفي ذلك يقول المولى عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}، فكلما تقدم العالِم بدرب العلم لمس من خلاله وجود الخالق عز وجل، وللعلم دوره في بناء الفرد والمجتمع القادر على حمل الأمانة وإبلاغ الرسالة، فالعلم يرفع قدر الإنسان، ويكرمه بين الخلق والخالق، وفي ذلك يقول عز وجل: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ}فانظر إلى مكانة العلماء في هذه الآية الشريفة، وفي موضع آخر يقول:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وفي موضع ثالث يقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في فضل العلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، ويقول: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)، و(من سلك طريقا يطلب فيه علما سهّل الله له طريقا إلى الجنة).
والعلم أولا وأخيراً هو قبس من نور الله تجلى به على عقول البشر فمحا عنها ظلمات الجهالة بقدر معلوم نلمسه فيمن حولنا، به يعرف الإنسان كيف يبني وينمي ويعمر الحياة، وعن طريقه يعرف حقوقه وواجباته ومسؤولياته تجاه نفسه ومجتمعه بعد خالقه، وعلى قدر علم العالِم وعمله بما تعلم يكون الجزاء.
ونقتفي اليوم أثر رجل من رجال التربية والتعليم، له في الفكر باع وفي الثقافة سعة واتساع، تشعر بهيبته قبل أن تشرف على باب عرينه، تاجه العلم، وعباءته الحلم، يرفل في عز التقى ورفعة الإيمان ويسبح في بحر من العلوم التي أتقنها على مر السنوات حتى صار فيها المرجع والمؤتمن، يستولى على الألباب بحديثه العذب، ويستلب القلوب بذكائه وحكمته، كأنه البحر في قلبه الدر كامن، تلمح في عينيه توقد الفطنة، وعلى جبينه علامة الاطمئنان بذكر الله، فبذكره تطمئن القلوب.
أديب في تأدب وواعظ في إحسان، وفيلسوف في قمة الإتقان، عالِم وداعية خلوق، ووالد ومرب فاضل حنون، تراه دائما في تواضع جمّ، يعبر في يسر يقهر به العسر، فيأخذك إلى المراد من المعاني عبر أيسر الطرق المعبدة للفهم وكأنك في نزهة ربيعية، لا تمل حديثه، يحسن الإنصات كما يحسن التكلم، يبدأ بسم الله فتخرج الكلمات منه ماء عذباً سلسبيلا في هجير الفيافي والقفار، وكأنها الدر يتناثر في حضرة الأسماع.. مهما قلنا فلن نوفيه حقه، ومهما كتبنا عنه فلن نكون من المسرفين، إنه عبد من عباد الرحمن الذين كانوا يمشون على الأرض هونا، إنه الراحل الكبير العمّ والمربي الفاضل عبدالرحمن البراهيم الصالح البطحي سيد المجالس كما أسماه بعض أصدقائه أو كما يحب أن يكنى (أبا إبراهيم) أسكنه الله فسيح جناته.
كان يتمتع - يرحمه الله - بحضور يفوق الحضور وبُعد نظر المُطّلع على بواطن الأمور، تراه بين محبيه وتلاميذه كما ترى القائد المحبب في جنده، متعدد المناهل والمشارب، كثير المعارف، يحدثك في كل شيء وكأنه الخبير المتخصص في هذا الفرع من العلوم، موسوعة ترجع إليها في كل ما قد يعنّ لك من أمور تريد أن تستوضحها أو تجلو حقيقتها، قال عنه باحث أمريكي هو البروفيسور دونالد كول بعدما زاره في عنيزة أواخر الستينات الميلادية ومرة أخرى في أواخر الثمانينات الميلادية لمساعدته في أبحاثه في العلوم الإنسانية وخاصة عن البادية في المملكة، يقول: وجدته رجلاً موسوعياً ومؤرخاً حقيقياً ومفكراً راصداً بدقة للمتغيرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع السعودي، كل ذلك في أسلوب بسيط وسهل سلس، يحب البحث والدراسة والتعلم ولا يبخل بعلمه على أحد، كريماً إلى أقصى حد. ويستطرد البروفيسور كول قائلاً: (وجدته خبيراً في شؤون البادية ولديه معلومات غزيرة ومهمة استفدت منها في دراستي، وحُفر اسم البطحي في ذهني).
لقد كان - يرحمه الله - علامة فارقة على طريق الثقافة الموسوعية الشاملة، توقف عندها وتأثر بها الكثير من المبدعين والباحثين والمثقفين. يعجب أهل العلم والثقافة من مقدرته التحليلية الرائعة ومقدرته على ربط ذلك الكم الهائل من المعلومات للخروج بفكرة واضحة وتفسير يفوق المنطق. كما أن لحديثه سحرا، وفي صمته أمرا، عاصر عصر الطفرة وما قبلها فكأنه درة بين شطري الصدفة، فإذا كانت عنيزة هي مدينة الأصالة ومحبة الثقافة وإجلال العلم، فإنه درة عنيزة وقمرها البدر على مر السنين، فريد في صفاته متبحر في علمه، جمع في ذاته أفق الزمان والمكان، وإن لم ينل حظه من الزخم الإعلامي، ولم يكتب لأفكاره التي استودعها ذاكرة المستمعين أو صفحات الورق أن ترى طريقها إلى القراء، وذلك لانشغاله بمحبيه ومريديه وعشاق مجالسه (مجلسه الأول في قهوة بيت المسهرية قديما أو ما كان يطلق عليها مجلس الأمة، والمشهورة بالقهوة السوداء لسواد حوائطها بسبب دخان الحطب الذي كان يوقد ليلياً لتجهيز الشاي والقهوة العربية احتفاء بالضيوف وللتدفئة خلال فصل الشتاء، ومجلسه الأخير داخل عشيقته مطله - مزرعته المتزينة بأشجار النخيل والإطلالة الساحرة على عنيزة)؛ لذلك لم يورث الكثير من الكتابات، إذا جاذبته أطراف الحديث غلبك بغزارة علمه وتدفق المعاني والكلمات، كالنهر الجاري يفيض على شاطئيه. كان يرحمه الله يجد نفسه في الشعر وفي التاريخ وفي العلوم بشتى أنواعها وفي الفكر وفي الثقافة العامة. يقول الناس عنه إنه كان جامعة عريقة جمعت العديد من التخصصات العلمية الدقيقة، فهو سقراط عنيزة، وأفلاطون نجد، نبع دائم من العلم الممزوج بالخلق القويم والنقد الراقي، متدفق العطاء، عَلَم من الأعلام عاش في هدوء أهل اليقين ورحل رحيل الفرسان المرموقين، وسيظل في وجداننا نسراً يحلق في آفاق العلوم والمعارف التي ورثناها عنه والفضائل والمكارم التي تعلمناها منه يرحمه الله ويجزيه عنا خير الجزاء.
وصدق الشاعر إذ يقول:
أَكْرِمْ بأهل العلم والعلماءْ
فهُمُ المنارةِ في دُجَى الظَلْمَاءْ
أبا إبراهيم إن يحجُبْكَ الثري
متربع فوق الذُرَي العلياءْ
فلك المآثرُ في مجالس علمنا
لك في القلوب محبة ووفاءْ
ولئن كان مُفَرِّقُ الأحبابَ هو قضاء الله الذي لا مفر منه لمخلوق، فعزاؤنا أن الفقيد باق وسيظل في قلوبنا وضمائرنا، نوراً يهدي إلى الدرب، بما ورَّثَنَا من كريم الخصال وفضائل الأخلاق وغزير العلم.
نسألُ اللهَ عز وجل أن يتغمدهُ بواسعِ رحمتهِ، وأن يلهمنا جميل الصَبْرَ على فِراقِهِ، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.