بضاعته خرداوات نافقة، أما متجره فعراء صيفي لاهب، جدرانه أجساد المارة وزحامهم، وسماؤه أشعة شمس حارقة، فيما أرضه قارعة سوق الخميس، ورمضاء أديمها المشتعلة بغموم باعتها وهموم زبائنها، وأطياف غزل بريء، وآخر آثم يتربص ويتربص به.
قبل أن تغادر العصافير أعشاشها.. خرج عجلاً ليدرك تلك البقعة التي طالما سبق إليها في خميسات ماضية.. سيارته التي عودته التوقف لغير سبب.. كانت أكثر مروءة هذه المرة، فلم تقف إلا في سوق الخميس، والبقعة (الحلم) التي طالما تطلع إليها ألفاها حرة لم تحتل بعد.. فنزلها مغتبطاً بنزولها، تجار سوق الخميس الذين تقاطروا على السوق بعده غبطوه حد الحسد.. لافتراشه تلك البقعة (المباركة)، حتى إن أحدهم كان يندب حظه مردداً: (صحيح الحظ للشلقا والبلقا ولشينة الملقا)!!
وهو ما أريد له أن يسمعه بوضوح، فوقر في أذنه بغير عناء، بيد أنه لم يكترث لما سمع، ومضى يدافعه بهمهمة لاغطة، وغيظ مكتوم، فيما شفتاه تنبسان بصوت خافت لا يسمعه غيره: (تحسدون العمى على كبر عيونه)!!
من كيس فستقي اللون.. مهترئ الأطراف.. أخرج بضاعته المستعملة ونصف المستعملة، ورصفها أمامه بعناية، ليرد إليها بعض ما سلبه الزمن من بريق جدتها: إبريقان استانلس ستيل، دلة رسلان نحاس لم تجد أدوية التنظيف في تلميعها، موقد غازي صغير زيتي اللون، قداحة بلاستيكية عليها آثار زيت متكثف، مروحة يدوية من جريد النخل، كتابان في الطهي للشيف رمزي، وجزءان من أطياف الأزقة المهجورة: (العدامة والشميسي)، وأشرطة كاسيت قديمة ل(حضيري أبو عزيز، ووديع الصافي، وفايزة أحمد... ونعل حمام إلى جانبها.. لا يدري هل هي للبيع أم أنها نعله التي جاء بها؟
حركة السوق لا تتوقف.. لغط الباعة لا ينقطع.. غناؤهم لبضائعهم متصل لا يفتر.. وأمواج من البشر تغمر المكان.. تجيء خالية اليدين وترجع مثقلة، وبعضها ترجع كما جاءت، دون أن تكون قد ابتاعت من صاحب البقعة أو غيره شيئاً.
كانت الساعة عند الحادية عشرة صباحاً.. حين أضحى السوق ولما يبع شيئاً بعد .. فيما أضحى - هو - نصباً للشمس تحسب عليه ساعاتها، أما أنا فربما كنت المتسوق الوحيد الذي وقف عليه مشترياً، لم يكن في بضاعته شيء يشدني، حتى الروايات التي اضطر إلى جلبها من خارج البلاد كالعدامة والشميسي موجودتان لدي، وقد قرأتهما منذ زمن، ولم تزالا ترزحان في درجهما لم تبرحاه بعد، ولكني توقفت لأجلها هذه المرة.. كما أتوقف عند دور الكتب المستعملة، لعلي أجد فيها بغيتي التي أطاردها من مكتبة إلى مكتبة، انحنيت.. تناولتها.. طالعتها.. فرأيتها كما أحببت أن أراها.. مهداة من مؤلفها إلى مثقف زهد فيها لثمن بخس، وعلى غلافها من الداخل كتب: (إهداء مع صادق الود إلى العزيز أمجد مختار.. التوقيع المؤلف 23 نوفمبر 2004م).
سألته:
- بكم هذان الكتابان؟
- الواحد علي بثلاثة ريالات، أعطني فيهما عشرة وخذهما حلالاً عليك!
كان وقوفي عليه فيما يبدو سبباً لانحسار بقعة الهم عن وجهه المحتقن بالألم، وانفراج أساريره ببعض سرور، وأنا أفاوضه في ثمن كتابيه، وهو يقرأ في عيني اللهفة لابتياعهما!!
نقدته مئة ريال، ليأخذ عشرة ويعيد سائرها إلي، أخذ المئة.. قلبها بين يديه.. نظر إليها مليا.. سألني:
- أليس عندك عشرة ريالات؟!
أجبته مستظرفاً:
- عندي خمسمائة ريال (معقول ما معك فكة)؟!
- فر السرور من وجهه، جمدت ملامحه، حلت الكآبة مكانها، عاد وجهه يحتقن كما كان، فأعاد المئة ريال وهو يقسم: لو كان عندي نصفها لما قعدت هاهنا!!