عندما تتشظى الأشواق
خليل إبراهيم الفزيع
*175صفحة من القطع المتوسط
الأشواق حين تتشظى تقذف بحممها في كل اتجاه.. تماما كما هو البركان حين يتفجر.. البركان ثورة موت.. والأشواق ثائرة حياة مغموسة بالحزن تارة وبالفرح أخرى.. شاعرنا الفزيع اختار لديوانه هذا العنوان.. إلى أي مدى تناثرت أشواك وأشواق عاطفته؟
(عريق الأقصى).. شواظ من نار كواه.. وصرخ:
قفر الجرح من الأقصى فمه
شهد العالم ماذا آلمه
واستنامت همم القوم ولم
تنفض الوهم نفوس ملهمه
يا حريقا شب في الأقصى وما
أيقظ الحرق نفوسا مسلمه
مثل هذا المعمر في تاريخهم
لم ير العربي عهودا مظلمه
أبيات رائعة أربعة تلخص أنشودته الطويلة المستفزة أجاد حبكتها وصياغتها وفكرتها.. شاعرنا له محايلة يخاطب بها ابنة الناس:
يا ابنة الناس ما الذي تبتغينه
من حياة قصيرة مجنونه؟
غير دفء في عاصفات الليالي
وحنان له القلوب رهينه
وشعور بأن في الناس خيراً
وسلاما وأمنيات مصونه
إنها عظة أعطاها لابنة الناس الموجلة.. والخائفة على مستقبلها.. لم يترك لها أن تجيب.. هو الذي سأل.. وأجاب..
الحزن لديه سعادة.. ماذا أبقى شاعرنا للسعادة.. لقد صادر حقها بجرة قلم.. جردها من الحلم الجميل.. والأمل المواجد:
لا تحزني.. فالحزن مقبرة السعادة
لعله أراد أن يذكي لديها إرادة الحركة.. وأن تطرد من مخيلتها أوهام الغد:
هيا اسرجي فرس العبور إلى الإرادة
ودعي الكآبة حين تشتد المآسي
فالليل تعقبه تباشير الولادة
ولادة الصبح الزاهي باشراقته.. ولكن ماذا بيد ابنة الجيران.. إنها لا تقدر على تغيير مجرى أحلامها.. إنها متعسفة.. وغير منصفة.!
شاعرنا طوَّف بمرابع ماربيا الأندلسية:
يا نفس لاح الهوى الفتان فاحترسي
وحصِّني القلب من طغيان الشرس
فكم حصون هوت. كانت مناعتها
عصية. فانطوت في حالها النفس
لكن قلبي اكتوى من نار غانية
تُردى مفاتنها مع نبع أندلس
أرى هواها الذي يطغى على عجل
يحاصر القلب في عنف وفي هوس
إنه بين المطرقة والسندان.. بين نارين أحلاهما مر.. نار يخشى عليها أن تحرقه.. وأخرى يلمس دفئها ويستجيب لجمرها الذي لا يحرق.. اختار ألا يكون فراشة حب تصطادها النار ملء رغبتها.. وأن يكتفي بالعزف والتغني.. وربما أيضا التمني:
عزفت حلمي على أنغام بسمتها
إذ القصيد احتسى من يومها السلس
استرجع وقد بهره الحسن مرابع الفردوس المفقود.. تذكر (الحمراء) وقرطبة وطليطلة وغرناطة.. واكتفى من عيده دون حمص:
لم تدر فاتنتي أن الفؤاد غفا
في لذة الوصل أضحى غير منغمس
وان فارسها المغوار قد هزمت
خيوله ما درى الخيال بالفرس
وأن جرحا صحا تخشى عواقبه
في القدس نزَّ كما في أرض اندلس
في فخه أكبر من عصفور.. آثر أن يصمت دون وداع.. تاركاً نجواه لآخره..
ألا يا ليل ان القلب ملتاع من الهجر
يعاني فرقة الأحباب في حزن وفي عسر
مضت أيام.. والأيام كم تفني من العمر
أقضي الوقت مهموما. حزينا تائه الفكر
رجوت الطيف فاستعصى وما للطيف من عذر
لعل خيالها يأتي بأحشاء الدجى يسري
لماذا يا عزيزي مزقت أوصال قصيدتك وأفقدت شيئا من بريقها.. لقد ظلمتها.. لقد اعادتها نيابة عنك إلى بيت شعرها المقفى حتى لا تحس بالفرقة.. ومن نثر ما لا ينثر إلى أسر البعاد حيث يقول:
أهمسك؟ أم هو العسل المصفى؟
أم الشوق المؤجج ليس يخفى؟
إذا يسري ففي التبرات دفق
من النجوى تفوق المشهد وصلا
يحاصرني البعاد إذا تمادى
على نفسي. وعندي النفس لهفى
جميل هذا الاستطلاع.. يبحر في خياله ما بين وعود باللقاء عانق خطرات فكره وأمانيه طوى عليه آهاته الحرى متمنياً اللجوء إليها يوما.. ماذا بعد؟
لقد نهل ثمالة الأحزان.. وفرغ كأس هواه:
وأورثني البعاد شديد حزني
معنى في هواك فكيف أشفى؟
سارع إلى طبيب القلب.. واخصائي الحب قبل أن تدعها هي بائسة.. وترحل هي يائسة.. فالقيد.. والمصد مؤشر فشل.. خذ منها ما تبقى..
ويبقى صوتك الشهدي وهما
وإني في الخيال أراكِ أوفى
كل شيء في الخيال جميل.. وأجمل منه ألا يرتهنا الخيال أمام رهان الواقع.. عش الحقيقة كما تراها.. وكما رأيتها:
أنتِ حلم؟ أم خيال توارى.؟ أم نشيد؟
به انتشاء السهارى..
أم أمان خبئتها في ضلوعي؟
(خبأتها) الهمزة على الألف لا على الياء هكذا أحسب.. إنها الحقيقة التي تستوطنك خيالاً فما تحصل منها على النزر اليسير.. المناجاة اعتراف:
طرقت بابك في ذل يسر بيني
وكم ندمت على ما فرطته يدي
هاذي عطاياك لا تحصى عليّ وكم
حمدت نعماك في عسري وفي رغدي
يبدو أنها دعوات كريمة أمام من أكرم.. حسبك الاعتراف يا عزيزي.. إنها منك خطاب اعتذار عن خطأ ما.. والاعتذار عن الخطأ فضيلة حتى لو لم تقل لنا نوع الخطأ.. الله رحيم بعباده.. والذين لا يخطئون هم الذين لا يعملون.. لا أحد في حياتنا يملك العصمة من أمره..
شاعرنا.. وهواه. والجنة مرتع صباه.. أن يتذكر:
موئل أنتِ للهوى والجمال
ما حياتي إن لم ترقي لحالي
ملهمات من ذكريات دهمتني
ورمتني في واحة من خيال
في بحور يضيع فيها شوق
يتمته على البعاد الليالي
ما حنيني لغير وجهكِ سلوى
كيف أسلو وأنتِ ذات الدلال
جنته يبدو أنها معشوقة كالحسناء تنطلق وتستنطق حتى ولو كانت صامتة..
ما حنيني لغير وجهكِ سلوى
كيف أسلو وأنتِ ذات الدلال؟
أنتِ حب حملته في ضميري
ذاك صرع على المدى قد بدا لي
البعاد وحده فجَّر في داخله أشواقاً لا تحصى.. إنها بدقة حب لمن أحب.. ومن الحب إلى العبث في خطابه (دع العبث)
خفف ملامك فالهوى أقدار
ودع العتاب فللهوى أسرار
جرِّب تباريح الصباية كي ترى
إن المحب من العقاب يضار
أبداً يا صديقي لا حب دون عتب.. ويبقى الود ما بقي العتاب.. ما يضير المحب العذاب لا العتاب لأنه خطاب تصحيح لهفوة أو جفوة.. غير هذا يظل قطار الموصل قائما
والذكريات بخاطري لما تزل
نِعم الرفيق.. إذا يطول مسار
شيدت جسرا للمحبة راسخاً
عجبا فكيف يهده الاعصار؟!
لا لا تلم يا صاحبي: أو لم تقل
خفف ملامك فالهوى أقدار
بين الشعر والوجدان خيط رفيع لا ينفصم ولا ينفصل:
ألا يا طائر الفردوس إن الشعر وجدان
على انغامه غني خلي القلب ولهان
وكم في قطبه دارت تباريح وأشجان
وكم في الشعر أفياء. وكم للفكر ميدان
أيا شعرا ملأت الكون تغريدا له شان
رسمت الحلم ألوانا لها في القلب أوطان
توصيف جميل لثنائي أجمل.. الشعر في صدقه.. والوجدان في خفقه.. من الرابط الجميل إلى شكوى لا ارتباط بين آمال صاحبها وماله!
يا من شكا مر الحياة وبؤسها
وعليك من نعم الحياة قلائد
هلاَّ وعيت بأن رزقك موكل
بمشيئة الرحمن كيف تعاند؟
لكن سعيك في الحياة ملذة
فاجعل مرادك في الحياة تجاه
أبيات وعظ.. واقع الحياة يا شاعرنا يختصره قول إلهي معناه: ومن عبادي من لا يصلح إلا الفقر.. ولو أغنيته لطغى.. الغنى غنى القلب.. رجل يخدمه ماله أسعد من آخر يخدم ماله.. الثروة بذل وعطاء، وانفاق في سبيل الخير، وليست اكتنازا وبخلا.. الشكوى ستظل قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. أليس هو القائل جل شأنه{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}
لإبداء الرأي حول هذه المراجعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5621» ثم أرسلها إلى الكود 82244