فُجع الأصدقاء والأهل ورُوِّع الكرم والبذل لفقد الناشر التونسي الكبير (علي بوسلامة)، كان رحمه الله واسع الصداقات متين العلاقات، يترك في كل بلد أصدقاء وبعد كل لقاء أحباء، له مع كل صديق قصة ومع كل مكروب غصة، يساعد المحتاج ويعين الملهوف ويُنجد من يلجأ إليه، وهذه والله خصال كبار الرجال لا صغار الأرذال.
عرفت الفقيد الراحل حق المعرفة قبل أكثر من ثلاثين عاماً، خبرته عن قرب وصاحبته بالجنب فرأيت منه الأعاجيب، كيف أستطيع أن أختصر البحر في سطر، إن تاريخ الكبار لا يُطوى في أشبار، بل يمتد ويطول عبر البحار.. ماذا أستطيع أن أقول ومجال الحديث عن الراحل الكبير كثير، كان رحمه الله يفعل الخير ولا ينشره ويسعى مع المحتاج ولا يذكره، وقد سبقني من كتبوا عنه وذكروا بعض مناقبه ومزاياه وأفضاله وعطاياه، كيف أجيء بعدهم وأضيف، إنني كما ذكرت منذ عرفته وهو شخص عجيب في كرمه كبير في محبته عظيم في صداقته، بل حدثني نجله السيد رياض أنه كان كبيراً وعظيماً حتى في مرضه. ألم أقل لكم من قبل إني أحدثكم عن رجل غير عادي وشخص استثنائي (إن المصائب في الكبار كبار).
أكتب هذه الكلمة تحت تأثير الذكرى، وأنا اليوم أسطرها والهموم تحيط بي بعد فقده والغيوم تسد علي الرؤية وتحجب عني الرؤى، كيف وهو العظيم في بذله والكبير في سعيه، قلت لكم من قبل كيف أستطيع أن أضيف إلى ما كتبه أصدقاؤه الكثر في تونس وأحبابه في المغرب العربي الكبير، لكني أتناول جانباً واحداً من جوانبه وأستدعي زاوية من مزاياه، إنها ستر البر وإخفاء العطاء وإعانة الضعفاء (الذين لا يسألون الناس إلحافاً يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف).
كان رحمه الله على جانب كبير من الذكاء والفطنة والدهاء يفزع إليه الأصدقاء في الاستشارة يستنصحونه ويستعينون به في حل الأزمات وحلحلة المعضلات فيتدخل ويحل كل إشكال بيسر وستر وعفو وشكر.
كان رحمه الله واسع الحيلة عميق النظرة بصير بأحوال الأسر وحاجات البشر، يحسن صنع المعروف ويتقن الإحسان إلى الملهوف ليس كالبلهاء الذين يعطون من لا يستحقون ويسعون مع من لا يستاهلون (أصاب الله ببرك مواقعه). أعود إلى ما أردت أن أقول وأذكر كان - رحمه الله - يتلمّس بنظرته العميقة ما يجول في دواخل الضعفاء من رغبات وميول وخاصة كبار السن غير القادرين على إتمام فريضة الحج أو الزيارة والعمرة، يعرف بخبرته ما بداخلهم من حسرة فيهوّن عليهم الأمر وييسر لهم الصعب ويذلل المستحيل، يا الله ما أعجبك يا علي، كان يوظف صداقاته التي ادخرها مع معارفه في مكة والمدينة وجدة وغيرها من مدن السعودية لمساندة الراغبين والإحسان إلى المحتاجين ويرجو الجميع ألا يُطلعوا أحداً ولا يخبروا فرداً. (كبير أنت أيها الراحل) هذه واحدة من أفعاله وقليل من أفضاله، أما دوره الريادي في نشر الثقافة وتيسير وصول الكتاب إلى المثقفين والطلاب، وأما قصصه ورحلاته شرقاً ومغرباً ومشاركاته في معارض الكتب في سوريا ولبنان والعراق والسعودية والخليج، كان إذا حضر يكون قطب الرحى الذي يلتف حوله الأصدقاء ويجتمع عنده الأدباء وينزل في ضيافته الجميع.
كنت لا أراه في تونس أو خارجها إلا مرفوقاً بصديق أو ضيف، كان لا يأكل طعاماً وحده، بل يلتمس زائراً فإن لم يجد فصديقاً حتى إذا سافر إلى المشرق تراه يتصل بمعارفه بالهواتف يخبرهم بوصوله ويستدعيهم لنزله فإن لم يجدهم تعرف على من يجلس في صالون الفندق ودعاه إلى عشاه حتى سماه أصدقاؤه السعوديون (علي الطائي)، بل هو نفسه ألم يسمّ أحد أنجاله الكرام ب(حاتم) تيمناً وتفاؤلاً بالكرم الحاتمي، وقد عرف الله حسن ظنه وثقته بالمولى جلّ وعلا فأعطاه حتى أرضاه.
لقد لقيت بعد غيبة عن تونس أنجاله الكرام رياض وشكيب ونوفل فعزيت نفسي برؤيتهم وعلمت أن سيرة علي باقية وصداقته مستمرة وقد ناولني ابنه الأخ رياض نسخاً من بعض المقالات التي نشرت في صحف تونس والجزائر وغيرها بعد وفاته فاطلعت عليها ورأيت كيف كان - رحمه الله - كما قلت سلفاً واسع العلاقات متين الصداقات وقد قرأت في مقال الوزير الجزائري العلامة عبد الرحمن شيبان طرفاً من ذكريات قديمة إبّان النضال ومطلع الاستقلال وكيف بدأ الفقيد حياته بالتعليم والصحافة المتخصصة، حيث أصدر مجلة (المعلمين) ثم تحول إلى النشر فسعى إلى إيصال الكتاب التونسي إلى المشرق العربي، ثم طور صناعته وحسّن إخراجه وتفنن في تنسيقه وتسويقه، كان يحضر كل معرض للكتاب ويشارك في كل مهرجان للثقافة ويغشى كل مؤتمر للأدباء، أما دوره في الأنشطة التجارية الأخرى مثل إنشاء الفنادق والمدن السياحية والمزارع والمصانع فذلك ما ندعه الآن جانباً.
لقد سعى معي وأقنعني بحب تونس ومن فيها وتوغل هذا الحب حتى صار إقامة مستمرة وتطور إلى شراء شقة تطل من سابع طابق على البحر في (ضاحية حلق الوادي)، ولا أزال كلما لجّ بي الشوق وجددت الز يارة لتونس أمر من حولها أحنّ إليها رغم السنين وخروجها من ملك اليمين. لقد كان علي بوسلامة شخصاً يملك قدرة هائلة على إقناعك بحب بلده وما فيها.. يجعل من لا شيء شيئاً ومن المستحيل ممكناً كأنه عالم في معمل كيمياء يقلب الأشياء ويسخرها كما تريد أو كما يشاء. كان ابنه رياض يحدثني ويصف موكب تشييع جنازته إلى مقبرة المرسى، حيث مشت الجموع خلف نعشه وزحفت القلوب والأحباب تشيّعه إلى مثواه الأخير:
تَرَكُوكَ فِي المَثْوَى الأَخِيرِ وَغَابُوا
وَتَقَطَّعَتْ مِنْ دُونِكَ الأَسْبَابُ
في ختام هذه الكلمة العجلى لي رجاء لأنجاله الشرفاء أن يستمروا على طريقته ونهجه وسليقته ويورثوا ذلك لأبنائهم وأحفادهم، فقد ترك لهم فقيدهم وفقيدنا علي ما هو أكبر من المال والثروة، إنها علاقات المحبة والصيت الحسن والسمعة الأحسن:
إِذَا غَابَ مِنَّا سَيِّدٌ قَامَ سَيِّدٌ
قَؤُولٌ لِمَا قَالَ الكِرَامُ فَعُولُ