1-0 الذات والرغبة :لا يلبث المتأمل لخطاب العواد الفكري، في تناوله للموضوعات المختلفة، أن يقف على ثيمة محورية، تتكرر الدلالة عليها، وتجتمع في هذا التكرار كلمات عديدة، من مثل: النهضة، التقدم، التجديد، الابتكار، العلم، العقل، النور، اليقظة، القوة، النضج... إلخ، في مقابل تكرار لأضدادها، من مثل: التخلف، التقليد، الجمود، التكرار، الوهم، الخرافة، الظلام، الفتور، الضعف، الطفولة... إلخ. ويمكن أن تقسم تلك الكلمات من جهة علاقات تضادها وترادفها إلى ما يكشف عن علاقة الرغبة فيها / أو عنها، وهي العلاقة التي تبرز من خلالها وحدة (الذات) الدلالية في أي رسالة لغوية تامة المعنى، كما هو مقرر بنائياً. وقد اخترنا (الذات) في هذه الدراسة، من حيث هي منظور يقوم في مؤلفات العواد غير الشعرية، لنفحصها بالاستناد إلى مفهومها، عند جريماس، الماثل بالرغبة في موضوع أو الرغبة عنه، ومقتصرين على تتبع أبرز إبدالاتها التي يتعدد بها ممثلوها، وأحياناً تتعدد أدوار بعضهم. والغاية من ذلك محاولة الكشف عن مدى تماسك خطاب العواد الفكري، والتعرف على مجازات ذاته وأقنعتها التي تحمل من الصفات أو تفعل أو تقول ما يشتهيه.
2-1 الإنسان: يشيع الإسناد للإنسان، لدى العواد، والأخبار عنه، والاحتجاج به، والإحالة عليه واتخاذه قيمة، أو وجهة للحديث، ومن ثم يغدو (الإنسان) غرضاً من أغراض خطاب العواد، ومنظور فكره، وينتصب ذاتاً يؤول إليها الكاتب، لتمثل لديه النفور من الكراهية والعنصرية، والقمع، والظلم، والآلية، والأنانية، بقدر النفور من الأَمْثَلَة وادعاء العصمة أو الانحطاط البهيمي والفوضى الوحشية، في مقابل الرغبة في المحبة والتعاطف والتسامح والتكافل، والتوق إلى الثقة في الإنسان وإرادته وقدراته، والمطالبة بحقه في الخطأ، وحقه في الرأي والتعبير، ويمكن أن نعرض أمثلة لمقولات العواد التي يتجرد فيه من تعينه الشخصي ليغدو ذاتاً تقبل التجلي من خلال الإنسان في رغباته تلك، في المحاور التالية:
2-1-1 المحبة الشاملة:
يبدو لدى العواد توق إلى شعور شامل بالمودة للبشرية كافة، وهو توق يعبر عنه بدعوات النفي لكل ما يميز بين الناس أو يشيع الكراهية والحقد بينهم، فالحياة - يقول - (لا تصفو لك ولا تستقيم إلا إذا نويت أن تستقيم أنت في معاملتك مع الجميع على أساس المحبة الشاملة) ولا بد من إخراج هذه المحبة إلى المعاملة (حتى يشعر صديقك وقريبك وجارك... وأخوك الإنسان، بصرف النظر عن الدين ما دام مسالماً، حتى يشعر كل هؤلاء أنك تحبهم حقاً ولا تنوي لهم السوء، لأنك إنسان شريف لا تحب الضرر).
ومزايا الإنسان ورتبة العظمة الإنسانية كامنة في الارتقاء فوق مشاعر الحقد، أو الأسباب العنصرية والاجتماعية للامتياز، فإلغاء العنعنات - كما يسميها - وقتل العنجهيات، واستشعار الواقع والرحمة والعطف... هي مزايا الإنسان، (وأعظم النفوس قيمة هي النفس التي لا تحسد الناس على ما أتاهم الله من متاع الدنيا) و(الأنانية وحب النفس من أكبر الأسباب التي تضيع شخصية الإنسان) ويمضي لينادي أن (نكون جميعاً أوفياء للجنس البشري كله، لأن البشرية أمانة مودعة لا في عنق كل إنسان ولكن في دمه).
وعلى غير عادة منطقه الواقعي النافي للمثاليات في القصة، يهتف العواد بالإعجاب والتقدير لكاتب رواية (الانتقام الطبيعي) على موقف بطل قصته عندما زار مستشفى أجياد فوجد صديقه القديم مريضاً بالزهري، ورحمه لأن قلبه الكبير لا يعرف الحقد، ويصف العواد هذا الموقف بأنه أروع ما في الرواية، لأن الإنسانية الكبرى في شخص بطل القصة تتغلب على رذائل الحقد والخيانة والانتقام فتسحق بأقدامها هذه الشرور.
2-1-2 حق الخطأ - حق التعبير:
النفور من الأَمْثَلَة وادعاء العصمة هو الوجه المقابل لمشروعية الخطأ التي تنقض الخوف والجبن وتستدعى الصراحة والحضور. ومن هذه الزاوية يحيل العواد على الإنسان، فيرى أن الخطأ (عنصر لا بد منه من عناصر حياة الإنسان) و(الكمال المطلق محال على الإنسان). الذي لا يخطئ - إذن - ليس إنساناً، وبالإنسان - هكذا - ارتفع الصوت في خواطر مصرحة بإنكار العصمة العقلية على العلماء في كل زمان ومكان، وبمناقشة آراء الكبار (مع احترام شخصياتهم).
وهو المستند نفسه في أبرز جوانب نقد العواد لقصة عبد القدوس الأنصاري (مرهم التناسي)، وفيه تظهر إملاءات الصفة الواقعية للإنسان، إذ بدت القصة في نظره مجافية للواقع وللإنسان، لأنها (بلا جو فني) أي واقع محدد الظروف والمعلومات، وهي (قصيرة النظر إلى النفس الإنسانية... فإذا نظر القارئ إلى قصة هذا الرجل الشاذ... وجد نفسه وهو مغمض العين أمام شخص لا يدري ما هو وأين خلق وكيف تكونت أخلاقه، ومن أين أتى إليه هذا النضوب النفسي) ومن ثم بدا الانتقال في أخلاقه (مفاجأة بشعة). وذلك كله في اتجاه مناقض للأدلجة والبيداغوجيا التي تحرص عليها الكتابة السردية من وجهة الوعظ والتربية الموجهة.
2-1-3 الإرادة:
وكما حضر الإنسان لإعلان المحبة الشاملة ورفض التمييز والعنصرية، ولإنكار أي تألّه إنساني بادعاء العصمة، أو مجافاة الواقع الموضوعي، فإن الإنسان يحضر في كتابة العواد لينطق برغبة التغيير والبناء , ومستند ذلك في الذات الإنسانية هو كينونتها النوعية ذات الإرادة والعقل والإحساس والطموح. وليس الوصف الذي يفرده العواد للإنسان أو يحيل عليه، بهذا الصدد، أشبه بمدونات الحساب في دفتر موظف حسابات وصرف، بل ينطوي على علاقة رغبة، هي ذاتها رغبة العواد في التغيير والبناء وبث روح اليقظة وإرادة الحياة والتقدم، وهذا هو ما يجعل الإنسان - كما أسلفنا - ذاتاً تمثل ذات العواد، وتؤول إلى بدلها.
فبالإضافة إلى شيوع الإشارة إلى (إرادة الإنسان) وتكرار ذكر (الهمة) و(العزيمة)... إلخ، يفرد العواد مقالاً عن (الإنسان والحياة) يقرر فيه أن (الإنسان هو الكائن الراقي الذي يقوم بأهم دور يمثله كائن في الحياة... وهو (الحي) الذي يسطو بقوة الحيوية فيه على ما يحيط به من أشكال المواليد الطبيعية) ويضيف: (ففي هذا الكائن الكبير الممتاز تصرخ الحياة للمتبصرين قوية الصوت رنانة اللحن حماسية الإلقاء ثائرة مندفعة، لأنها هي ذاتها تملؤه بكل ما فيها من قوة الحلول، وتسوق أعصابه القوية إلى العمل والحركة والسير والدفاع والمهاجمة والنقل والهدم والتأسيس والتعمير والتخريب، وتحفز دماغه المدهش القوي الفعال إلى التفكير والفلسفة والتأمل والإنتاج العلمي والنظر إلى جوانب العالم الفسيح لتغيير الأوضاع الممكن تغييرها).
2-1-4 منبع الأدب ومصبه:
أما في الحديث عن ماهية الأدب ووظيفته، فيأتي الإنسان ليمثل، بالمطلب الأدبي، ذات العواد، إذ الحاجة الإنسانية إلى الأدب هي حاجة الكاتب في وجوده الجزئي المتعين، وعلينا أن نفهم قدراً من التعادل والتوازي - كما يريد العواد - بين أن نقول: لا إنسان بلا أدب، ولا (عواد) بلا أدب. يقول: (فإذا نضبت النفس الإنسانية نضب إحساسها ونضب معه تعبيرها، وعندما تكبر النفس تكبر أفكارها وآدابها، ومتى ضاقت وصغرت صغرت الأفكار أيضاً وصغر معها الأدب).
إن الإنسان هو مصدر الأدب ومنبعه؛ ومصبه - إذن - هو ما يرضي رغبته، ولذا يمضي العواد إلى الحديث عن رسالة الفن والأدب بما يعلن تلك الرغبة ويبحث عنها، فما رسالة الفن - فيما يقرر - إلا (إنماء ثروة الحياة في النفوس، وإشعال مصباح الفكر الإنساني، وشرح حقيقة الجمال، والصعود بالآدمية إلى أفق سام من آفاق الخلود). و(الأدب يرفع درجة تفكير (الأمة) ويجدد فيها نشاط النزعة إلى النهوض في اتجاهات السير البشري). وهو (يد تمر على قلوب مكلومة فتنزع منها الآلام).
هذه الرسالة الإنسانية للفن والأدب تجعل (التوحش) و(الهمجية) - لدى العواد - صفة مرتبطة بالتخلف في مضمار الأدب والفن والفكر، ومن ثم في مضار الحس الإنساني والاستجابة لدواعيه. (فأرقى الأمم إنما هي أرقاها تفكيراً وأدباً، وأحطها هي أحطها فكراً وأدباً، فلا ترج من الزنجي والبربري وساكن الإسكيمو وما إلى هؤلاء من الهمجيين والمتوحشين أن يكون مفكراً أو أديباً راقياً لأنه منحط في نفسه). وبذلك يغدو الأدب رهناً ل(الإنسان) بالمعنى الثقافي المدني لا البيولوجي، كما يغدو (الإنسان) - بالمعنى نفسه - رهناً للأدب.