سبق لثقافية (الجزيرة) أن فتحت ملف الشائعات التي أطلقتها مجلة (الهلال) المصرية التي كانت تحظى سابقا باحترام كبير، هذه الشائعات حاولت النيل من علم كبير من أعلام النهضة القومية العربية بمضمونها النهضوي والتنويري وهو أمين الريحاني باتهامه بالجاسوسية، وما دامت الثقافية فتحت هذا الملف فقد أردنا أن نقدم دراسة موجزة لا للرد على هذه الافتراءات فحسب بل ولتذكير القارئ العربي بهذا العلم النهضوي التنويري الشامخ إذ يتعرض مع وطنه لبنان لحملة مسعورة تريد اطفاء أنواره، وكأن لبنان ممثل الحاضنة الثقافية -عربياً- لحداثة العالم ومعاصرة التاريخ يضيق، يختنق، يصغر، يتآكل وينأى متباعداً روحاً وعقلا عن فكر وثقافة كلاسيكييه العظام الذين صاغوا وطنية لبنان: الحريات، التسامح (التساهل) بلغة الريحاني، الحداثة: عالمية الفكر وقومية الثقافة، التعايش، قيم الدستور والتوافق المدني.
لبنان هو الوحيد الذي استطاع في عصرنا الراهن أن يضمخ العالم بعطر الإنسانية الكونية المختصرة والمكثفة عبر (جبران خليل جبران)، حيث كتابه (النبي)، لا يزال الأكثر انتشاراً ومبيعاً في العالم، وذلك في عاصمة العالم الصارخة في دنيويتها وحسيتها وغرائزيتها التكنولوجية، والصارمة في دأبها وقوة اندفاع العقل في مغامراته القصوى: إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي هي أكثر دول العالم صهرا لملايين الأعراق والأجناس والاثنيات، لقد استطاع جبران وسط كل الصخب العالمي وتنوعه الباهر أن يرتفع في صوته، حيث انحنى اثنان من رؤساء أمريكا (ريغان وجورج بوش) الأب أمام جلاله، الأول وقع على رفع نصب تذكاري لجبران في العاصمة واشنطن في وسط حديقة عامة يطلق عليها (حديقة جبران التذكارية) مع مساحة 8000م من أرض الدولة، وفي سنة 1991 ستدشن الحديقة ويخطب جورج بوش متحدثا عن (ذلك الرجل من لبنان) في حفل افتتاح الحديقة، قائلاً: إن جبران كتب ذات يوم: (الحب كلمة من ضوء كتبتها يد من ضوء على صفحة من ضوء)، إنه ضوء نهارات جبران خليل جبران، ولعله ليس مصادفة أن يكون الاحتفال برفع نصب عروبة أمين الريحاني الإنسانية في إحدى جامعات بوسطن أتى بعد الإجهاز على كابوس العروبة البعثية 2003 ونبش أحد مؤسسيها (ميشيل عفلق) من حفر الماضي، وكأن اتاوات التاريخ استجابت لحلم الريحاني بمحاكمة صانعي تاريخ كوارث (النكبات) العربية التي رصدها بعين تبكي دما لكثرة الدماء التي سالت من أجساد الناس (الذين يدفعون الخراج، ويأكلون الكرباج، ثم يحملون السلاح للجهاد....).
ليس مهما أن نصدق رؤساء أمريكا أم لا نصدقهم، لكن علينا أن نصدق جبران والريحاني اللذين تكرمهما أمريكا دون أوطانهم، أي نصدق أن الآخر ليس دائما عدوا بالحد والتعريف، بل نحن الذين نصنع صورة عداوته في دواخلنا، كيف يمكن أن يستقيم للمثقف اللبناني أن يرى العدو (الأمريكاني) يرفع النصب لرموز ثقافته الوطنية (وأن يرى الصديق (الإيراني) يرفع رموز صور ونصب الثقافة الفارسية، ورموز صور صانعي نكبات العروبة العسكرية المهزومة منذ ألف عام حتى اليوم، بوصفها تلك هي الهوية المستقبلية للبنان التي يرتئيها الصديق الفقيه والشقيق الرفيق، إن المثقف الماجد -حسب تعبير الكواكبي- اللبناني سليل نور جبران وتنوير الريحاني، ونهضة نعيمة، وشعرية سعيد عقل، وتراثية حسين مروة، والموسيقية الرحبانية وصوتية فيروز، استصرخ ضميره هذا العداء الجبان على شوامخ لبنان البروميثيوثي من قبل صحفيين رقعاء، إذ يخوِّن أمين الريحاني ويصنع منه جاسوسا وعميلا أمريكيا، استمراراً لهذه الرقاعة التي ينتجها (تخت هز البطن الثقافي الوطني)، إذ سبق لهؤلاء أن خونوا إمام مدرسة التنوير والحداثة الإسلامية محمد عبده لموقفه من (الآخر) الغربي بوصف هذا الآخر مكملا للأنا وليس عدواً للذات الثقافية المصرية والعربية والإسلامية!
حول تخوين الريحاني
لعل أبرز مظهر لحالة التسفل الثقافي هذه، أن الذي تصدى لحملة
التصفية المعنوية للريحاني هو رئيس تحرير مجلة ذات تاريخ عريق (الهلال) التي انتهت هذه المجلة إلى رئيس تحرير يشتغل على الفضائيات العربية....، فأراد وفق الفهلوية أن يزاود على المعارضة الوطنية باستخدام داء الجائحة (القوموية-الإسلاموية) القائمة على وسواس عصاب القهر (القوماني) في رفض ومعاداة كل ما يتصل بالآخر الأمريكاني، وذلك بعد احتفاء الولايات المتحدة بالريحاني ووضع نصب له في جامعاتها، وهي دلالة ينبغي أن يندى لها جبين العروبة خجلا من تكريم الأمريكان للريحاني، وتخوين بني قومه العرب له، هذا القوم الذي قضى الشطر الأخير من حياته هياماً رومانسياً صوفياً بوحدتهم ورسالتهم في عصره الذي ملأه كبرا إلى الحد الذي يتيح للريحاني أن يوصل رأيه لوزير الخارجية الأمريكية ذاته، لا أن يكون كاتب تقارير صحفية كالسيد الدقاق وأشباهه ونظائره! ففي سياق إجابة الريحاني على أسئلة طرحت عليه سنة 1936، يتحدث ببساطة شديدة -دون خوف من التخوين الدارج اليوم- بأن وزارة الخارجية في باريس -وليس في واشنطن في كل الأحوال- شاءت أن يلتقي الجنرال ساراي ليفضي إليه (شيء من علومي عن البلاد العربية وملوكها... ففعلت ذلك حبا بالتقارب والتفاهم بين الحكومة الفرنسية وأولي الأمر في البلاد العربية، بل حبا بالصداقة بين الشعبين الفرنسي والعربي...) لأن الحقيقة التاريخية الكبرى هي الركن الأول من أركان النهضة العربية).
بل ويتحدث في السياق ذاته بثقة وفخر بأنه كان (له بعض الدور في تمهيد السبل إلى التقارب بين الملك عبد العزيز والحكومة الفرنسية) القوميات ج -ج1- ص321.
هذه الاجابات يسوقها الريحاني سنة 1936، أي بعد ثلاث سنوات على فوز الأمريكان باتفاقية الامتياز عن النفط في الظهران، وكان من أسباب فوز الأمريكان هذا على الأوروبيين والإنجليز بالتحديد هو أنهم لم يكن لهم ماض إمبراطوري في الشرق الاوسط.
فالريحاني هنا لا يقوم بدور تقارب بين الملك عبد العزيز والأمريكان كما يفترض لعميل المخابرات الأمريكية أن يفعل، بل مع فرنسا التي يفترض أنها منافس للأمريكان على امتيازات النفط!؟
الريحاني والصوفية القومية
بل إن الريحاني (ناسك الفريكة) غدا في الآونة الأخيرة من حياته بعد منتصف الثلاثينات متنسكا في محراب العروبة.
ففي السنتين الأخيرتين من حياته 1938- 1939 ستغدو العروبة (روحاً مطلقاً) تتناسل عن متواليات دلالية تظهر مدى الاستغراق النفسي والوجداني الذي يبلغ حد الوجد المشتعل بمناخات الرومانطيقية القومية الألمانية (الفيختية) حيث ستتردد صيغة (روح العروبة) كلازمة دلالية في نصوص الريحاني القومية، فلم تعد العروبة (فكرة ثقافية أو عقيدة سياسية... ولا هي من المبادئ والنزعات التي تتعدد في السياسة وتتنوع في الأمة، بل هي روح قومية عالية شاملة... غذاء الأرواح ونور الجهود والآمال... توطد الايمان، تظهر القوى الكامنة، تشحذ العزائم، تذكي الشجاعة، تبعث الشمم، توحي المجيد من الأعمال.... الأمة بحاجة إلى الروح القومية تتغذى بها فيشتد ساعدها... وهذه الروح القومية المنبعثة من الحقيقة).
إنه يعلن كل ذلك بكل اباء قومي، وان كان ذا نفحة شعارية -لكنها صادقة في زمنه- بما يشكل مرجعية رومانسية حارة ومفعمة بالثقة والرجاء والمصداقية، تدفع الريحاني لهذا الإعلان الصاخب أنه (عربي الدم، عربي الحس والنزعة، عربي القلب والروح) هذه المشاعرية الفياضة المفعمة بالصدق والاخلاص هي الكامنة وراء الراديكالية الحادة في معركة حياته الفكرية والسياسية ضد الطائفية إلى الحد الذي يقول: (الطائفية هي نوع من الخيانة الوطنية...) القوميات -ج1-347.
هذا الفرح الغامر بالعروبة أنسى الريحاني الكبير كل الشروط الروحية والسياسية المدنية والحضارية للآخر الشريك في هذا المشروع القومي، الذي كان محتواه دائما -بالنسبة له- مبادئ الثورة الفرنسية (الإخاء-المساواة- العدالة) الذي من أجل تعميق هذا المضمون للمشروع القومي العربي وضع كتابا عن الثورة الفرنسية، وتصدى لتوماس كارلايل بنديّة عالية يرد عليه (تخمه الفكري) عندما كان يسفه الثورة التي كلفت فرنسا كل هذه الدماء.
بل إن صوفيته القومية جعلته في الآونة الأخيرة من حياته يضحي بشروطه النظرية عن أولوية المضمون المدني الدستوري الديموقراطي الذي كان يشكل واحدة من وصاياه التي وضعها عام 1931 لكنه في غمرة فرحه البريء الصوفي ونشوته بالعروبة، يترخص في شروطه الدستورية والمدنية الديموقراطية بعدما راح ينشغل بدور الخليج العربي داخل منظومته العربية، ولذا راح يضرب الأمثلة للبنانيين الحذرين والمترددين من الانخراط في المحيط العربي الشاسع، فهو بعد أن يندد بخدمة الأجنبي الذي يعتبره: (عاراً أن نكون خداماً وحجاباً وكتابا للمسيطرين علينا... ونأكل خبزنا الافرنجي مغموسا بزبدة المذلة والخنوع) قوميات- ص 319، والأجنبي هنا ليس البعد الثقافي الأوروبي (الفرنسي والإنجليزي) بل والأمريكي- رغم أنف ثلالات العالم الثقافي الذي تردت له الهلال- إذ يشدد الريحاني على أنه يريد (ناشئة جديدة لا متأمركة بأخلاقها ولا متفرنسة ولا متأنكلزة) قوميات - 369.
بعد هذا التقريع لبني قومه من اللبنانيين المتغربين، يوصي بالجار السوري (الأخ لنا في الوطنية السورية اللبنانية وفي القومية العربية).
بعد ذلك يذهب بعيدا في عروبته النشوانة باتجاه صحراء العروبة (فم القوة الحية، فم الحياة الظافرة، فم الملك ابن سعود على حد تعبيره ) الذي يرد على برسي كوكس عندما يوصيه بالريحاني، يقول الملك: (الأستاذ الريحاني هو منا وكل مسيحي عربي هو منا). القوميات - ج1 - ص 319، وتأسيساً على هذه الواقعة يتساءل الريحاني مستنكراً: فلماذا لا يثق اللبنانيون بالنهضة العربية؟