قبل سنوات زرت المغرب. لا ليست زيارة وحيدة، لقد زرت المغرب طوال العقد الماضي، عشرات المرات. الذهاب إلى هذا البلد من فرنسا أمر في غاية السهولة، كما أنه لا يكلف مادياً الشيء الكثير، غير أن المغرب، وعوضاً عن كونه بلداً ساحراً بتنوعه وقيمة هذا التنوع الثقافية، إلا أنه كذلك، أرضاً خصبة للاكتشاف. وخلال عقد من الزيارات المتكررة، جلت في كافة مدن المغرب وقراه وجباله وساحله الممتد في الشمال من البحر المتوسط وحتى مدينة العيون البحرية المتواضعة في جنوب الجنوب، وحتى ورزازات في وسط الصحراء وصولاً إلى الواحات الكبيرة بالقرب منها، تلك الواحات التي يشعر الزائر لها أنه سافر عكس الزمن لعدة قرون دفعة واحدة.
زرت المغرب لا كمستشرق أوروبي، يسعى لدراسة البلد وأحواله وتفاصيل مجتمعة، ولا كسائح هارب من ضغط العمل طوال العام إلى بلاد يرتاح فيها ويستكين ويزجي الوقت في أمور ممتعة، كنت أزور المغرب بهدف دراسة المطبخ المغربي الذي يعتبر الثالث عالمياً بسبب تنوعه، طبعاً هذا الكلام لا يمكن أن ينطلي على النساء في الشرق، الذي تحول المغرب بعيونهن إلى محيط يغرق فيه الرجال. مع هذا فالمغرب عُرف في الذاكرة الشعبية في بلادنا أنه بلد السحر والسحرة.
لم يشتهر بلد في هذا الأمر كما اشتهر المغرب، روت لي صديقة، أن أحد القصور الملكية القديمة مرصود بالسحر، فقد كانت زوجة الملك، ولشدة غرامها لزوجها، كلفت عدداً من السحرة، أن يكتبوا تعويذاتهم على جدران القصر كي لا تدخله امرأة أخرى غيرها. كما روى لي شاعر مغربي أن ساحراً يعيش بالقرب من ورزازات، يمكنه أن يعرف من أنت وماذا تعمل وكيف تعيش وكل ما يخطر ببالك وما لا يخطر ببالك عن حياتك ومستقبلك، بمجرد أن يضع يده بيدك. عبدالله زريقة الشاعر الذي أخبرني هذه القصة، قال لي، إن السحر موجود هنا في هذه البلاد وحقيقي لكن هل هو مؤثر إلى هذا الحد الذي تنشر حوله كل هذه الحكايات؟ وإن افترضنا أنه مؤثرٌ، فبمن يؤثر وعلى ماذا؟ لكن السؤال الذي بقي في ذهني طوال هذه السنوات، كان ولم يزل لماذا نستعمل السحر للوصول إلى غاياتنا وما هي هذه الأهداف التي يحققها السحر؟
ولقد تيقنت أن الإجابة عن هذا السؤال ضرباً من الخيال، خاصة، وأن السحر شيء ذهني غير مرئي، ولا نرى منه سوى مواده، في سوق المتاجر التي تبيع أدوات السحر وهو يعتبر الأشهر، ربما، في المنطقة العربية وأفريقيا، وطبعاً في أوروبا هو غير موجود. في هذا السوق الذي يجاور حي الأحباس في كازا بلانكا، الذي بناه الفرنسيون بهندسة مغربية تقليدية محدثة، يخال المتجول فيه أنه يتجول داخل قصر من القصور الملكية القديمة، وهو الأكبر في المغرب، بعد الأسواق الصغيرة في مراكش والرباط وآسفي وورزازات، وتلك المتاجر الصغيرة التي تتناثر في الأسواق الصغيرة في مدن الشمال. يمكن العثور على كل ما يتعلق بالسحر، إضافة إلى الأعشاب على أنواعها والتوابل بكافة أصنافها ولحاء (بكسر اللام) بعض الأشجار النادرة المجلوبة من كافة أطراف العالم، يمكن العثور على عين أفعى الكوبرا الصحراوية الخطرة كما على جلد الأفاعي السوداء إلى جلود الثعالب والسحالي المحنطة وبول الذئاب الموضوع في حناجير صغيرة من الزجاج ويباع بأثمنة باهظة إلى الى إلى... إلى اللبان الأبيض النادر جدا الذي يعادل ثمن الغرام الواحد منه عدة قيراطات من الألماس. إلى الأحجار الكريمة إلى نهاية، الكتب التي تستقى منها الوصفات والمعايير وكيفية الصناعة التي تسمى السحر.
هذا ليس خيالاً، الأسواق موجودة والمشعوذون موجودون كذلك. قال لي صديق آخر أن الخميسات وهي مدينة تقع بين الرباط ومكناس، الأشهر في ممارسة السحر. قال، هناك لا يمكن أن تتناول شيئاً من أي بيت لأن الثقة معدومة ولا يمكن تعرف ماذا يوجد داخل كوب الشاي (الأتاي) كما يسمى في المغرب. وحكى لي حكايات وحكايات طويلة منها ما يصدق ومنها ما لا يمكن تصديقه. لكن في المحصلة فإن السحر موجودٌ بكامل تفاصيله وتراكيبه وعناصره.
( 2 )
لم يتحدث الأدب كثيراً عن السحر. في رواية عبده خال (الطين) أخبرنا عبده عن شخص بلا ظل، كان يعيش ويمشي بلا ظل. كيف يمكن لشخص أن يفقد ظله؟ أن يمشي بلا ظل؟ وهل الأثر هو الظل؟ ومن كان ليصدق ذلك أو يتوهمه أو حتى يتأكد منه؟ طرحت رواية عبده بعد ثرائتي لها عند صدورها عشرات الأسئلة منها المنطقي ومنها العقلاني ومنها ما يتعارض مع أي منطق وأي عقل. لكن عبده يعرف، جاء بالرواية من حيث أتى هو، من الحكايات الكثيرة التي تحاك حول السحر وعوالم الجان. فيما بعد أخبرني صديقي سهل أن جده أخبره أن الراديو حين وصل إلى عرعر (لم أعذ أذكر العام) اعتقد الذين يسمعونه أن بداخله جنٌ يهذي.
في المجتمعات البدائية، تلك المجتمعات المعزولة عن العالم. كل شيء ممكن أن يتحول إلى سحر خارق. لكن للسحر نكهة أخرى، عوالم متخفية ومخفية، الكسالى وحدهم من يعملون بالسحر. أولئك الذين لا يبارحون أمكنتهم أو حياتهم، يسكنون في مخيلات عقيمة بلا جدوى.
نيكولو غابوري، المؤرخ الإيطالي الذي سكن في فلورنسا حتى منتصف القرن الثامن عشر كتب عن السحر. قال «كان العطارون يخترعون تركيباتٍ خطيرة من مواد لزجة وأعشاب تحيل المرء إلى مجنون» قبل ذلك نعرف أن الفراعنة اشتهروا بالسحر. غير أن السحرة، أو هؤلاء الذين تمتعوا بقدرات خارقة وبمعارف وعلوم ماورائية ليسوا كمثل السحرة هذه الأيام. سيرجيو كاستيللو الشاعر الإسباني كتب يوما عن رحلاته إلى المغرب يقول «يتراءى لي أن السحرة الذين رأيتهم أقل إدهاشاً في أعمالهم من أولئك الذي قرأت عنهم في الكتب والصحف وعرفت عنهم من خلال الناس الذين رأيتهم يتلوعون من أعمال السحر الذي ارتكبت بهم».
لا ندري حقاً ماذا يفعل السحر بالمسحور. ثمة أعراض طبية بلا شك كالتقيؤ المستمر والصداع الفتاك الذي يفتُ قشرة الرأس كما لو أن زلزالاً يعتمل داخل الجمجمة.
( 3 )
في لبنان، يوجد سحرة. لا ليس على وجه الدقة. ربما عرافون هم هؤلاء الذين نشاهدهم على شاشة التلفاز ونستمع إلى توقعاتهم التي بلا ريب ليست سوى الكذب. مع هذا تسجل هذه البرامج أعلى نسب مشاهدة على الشاشات اللبنانية. في حين أن برنامج المقابلات (توك شو) الثقافي الذي كان يقدم قبل سنوات على واحدة من هذه الشاشات توقف ولن تجترح عبقرية العاملون في هذه الشاشة برنامجاً شبيهاً. واحدة من هؤلاء طلبت رشوة من رجل أعمال طموحه دخول البرلمان مليون دولار فقط لكي تذكر اسمه في البرنامج وتمتدحه.
السحر هنا ليس ذلك الذي بدأت الكتابة عنه، بل سحر الإعلام الذي بدل أن يقدم مادة مفيدة وثقافية تنمي عقل المواطن العربي (اللبناني، هنا بشكل خاص) يساهم في تسطيحه وجعله كائناً استهلاكياً على ما درجت الغابات أن تستوعب وتحوي.
تحويل المواطن بقصد أو عن غير قصد إلى مجرد كائن مربوط برسن التوقعات والغيب. ليس فقط ضرباً من الجنون والهذيان. بل جريمة كبرى على المجتمع نفسه أن يحاسب وسائل الإعلام عليها. إذ حين تتحول آراء هؤلاء المشعوذون إلى مسلمات في مجتمع كامل، يكون المجتمع قد فقد عقله وتكون الأمة قد فقدت قيمتها الكبرى التي تتمثل بانتمائها إلى دين لا يحض على شيء قدر ما يحض على العلم والتعلم والقراءة التي بنيت دعوته الأولى عليها.
( 4 )
أعود إلى الرواية، إلى فخاخ الرائحة التي كتبها يوسف المحيميد. تلك الرواية التي لا تزال تقتفي الأثر. الأثر الذي فقدناه يوم غصنا في صحراء من الاستهلاك والتفاهة.
simnassar@gmail.com
- باريس