العقل بطبيعة تكوينه ليس أداة ناجزة وليس عنصرا يولد مكتمل الملامح تام القسمات بقدر ما هو فاعلية دينامية تراكمية تتشكل على نحو تدريجي متى ما نأت عن المؤثرات السالبة وسارت في سياقها الصحيح.
حركة الوعي تنحى منحى تصاعديا حينما تتحرر من كافة العقبات التي تسعى لاهثة لإيقاف تمددها وكبح تدفقها وفي هذا السياق يعد الانجراف خلف الجماهير الغافلة والانسياق اللا عقلاني والمحموم خلفها من أبرز العوامل الكفيلة بتغييب العقل أو على الأقل عرقلة اندفاعه وتحجيم دوره وإرباك مستوى حركته الانسيابية. والتشريع الحكيم تنطق مقاصده العميقة الغور النائية المدى بضرورة التخلص من أوضار النزعة الإمعية المغرمة بالمحاكاة ومسايرة التيار الجارف والتقاطع معه حتى ولوكان على نحو من الاتساق الشكلي المصطنع.
الاستبداد ليس بالضرورة أن يكون سلطويا إذ هناك استبداد جماهيري لا يقل ضراوة إنه استبداد يحكم قبضته على العقل ويتحكم بمعالم توجهه ويحدد مسار تحركه، ولاشك أن الاستبداد يكون أكثر بشاعة حينما لا يشعر به المرء إذ إنه وبفعل ضغط العادة والتكرار وطول المعايشة قد يستمرئ هذا الواقع ويألف مكوناته السياقية، وبالتالي قد يتعاطى معه بوصفه الوضعية الأنموذج التي يفترض التشبث بها وعدم الانفكاك عنها أو مبارحتها بحال من الأحوال! وإذاكان الاستبداد السلطوي مكشوفاً وواضح المعالم، فإن الاستبداد الجماهيري في كثير من الاحيان خفي الملامح ولذا تبدو العقول تحت تأثيره، وكما لوكانت في اجازة مفتوحة وطويلة المدى فهي لا تفكر ولا تناقش ولا تعترض وليس في قاموسها: لم، ولا، لماذا، ليس لها قرار خاص ولا رأي معلن، إنها لا تسير وفقا لما تريد وإنما على ضوء ما يراد لها ومع كل هذه المصادرة الفاضحة لإرادة الفرد وتدجينه وإلغاء شخصيته إلا أنه ومع ذلك – وهنا تكمن الكارثة – يتملكه شعور غامر بالغبطة ولا يعي أنه قد جسد الإمعية في أقذر صورها!
الجماهير حينما تمد رواق تسلطها فإنها تكتسح عقل الفرد وتهيمن عليه وتكبح جماح تطلعه نحوالفرادة، ومن رام التفكير خارج السياقات المألوفة فلن يكون بمنأى عن متتاليات القالة التي يراد لها- أحيانا - أن تبدو ذات ملمح احتسابي يسهم في إجهاض كل محاولة – مهما بدت مشروعة - من شأنها مبارحة السرب والتغريد خارج جغرفية الأنا!
العيش في أجواء الاستبداد أيا كان نوعه سلطويا أم شعبيا هو ما يهيئ الأرضية الخصبة لشيوع العقليات الجزمية الحدية المتخشبة والذهنيات المقولبة التي لا تفقه التعددية ولا تؤمن بالآخر بل ولا تطيق سماعه والإنصات إليه فضلا عن محاورته والتقاطع معه على كلمة سواء الأمر الذي سيبقى شاهدا صارخا على مدى ضيق أفق تلك الذاكرة الانغلاقية التي تستنفد طاقتها في حروب جدلية وملاسنات استنزافية القاسم المشترك بينها هو محاصرة الذهنية المتوثبة وحبسها في شرنقة خانقة تكاد جراؤها أن تلفظ الأنفاس الأخيرة لولا بعض الأصوات المنبعثة هنا أو هناك والتي بالكاد يتناهى الى الاسماع صوتها المتحشرج، ومحصول القول: إن الانسياق الأعمى خلف الجموع ومداهنتها وعدم الاحتكام إلى قرارات العلم وعدم الصدور عن إملاءات العقل الصريح أمر لا يليق بذلك الفرد الذي يحترم ذاته ويعتد بكيانه فضلا عن ذاك الذي تصدى – أو هكذا يفترض - لترشيد حركة الوعي وتلوين معالم التوجه العام.
Abdalla_2015@hotmail.com
- بريدة