كنت قد اطلعت على مقالة بمجلة القافلة أتحفنا فيها الدكتور عبدالله الوشمي كعادته برؤية مختلفة وشائقة للتباعد في الخلفيات الثقافية بين الأجيال المتوالية، خاصة في هذه العقود الأخيرة من الزمن. طاف بنا أديبنا المميز بين ارتدادات الثقافة في أبعادها التراثية، وفي مضامينها المعاصرة من تفقه في شؤون الحياة، وتعدد مهارات التعامل مع المستجدات، وسعة الأفق في قبول التغيير والتواؤم مع متطلباته.
وهذا صحيح في مجمله، ولافت للنظر في التباين الكبير بين معارف جيل التسعينات الميلادية (وأقصد بذلك: مواليد التسعينات وليس من وعى فيها على التقنية) وما بعدها، والجيل الذي يسبقه (وهو للأسف جيلنا)؛ حيث التباين أكبر بسنوات ضوئية بين جيلنا والجيل السابق لنا. فقد كنا أكثر مهارة ربما في قيادة السيارة عن جيل آبائنا، وعرفنا بعض سبل التفكير، التي لم تتح لهم معرفتها؛ لكنهم في المقابل كانوا أكثر مهارة منا في شؤون حياتهم والواقع الذي نعيش فيه، بما اكتسبوا من خبرات عملية في الحياة. أما بين جيلنا والجيل اللاحق فالمقارنة ظالمة.
لكن ما أردت التوقف عنده في ذلك العرض المغري لتباين الثقافات في المجتمع الواحد إزاء التقنية على وجه الخصوص يتركز في ناحيتين؛ الأولى تتعلق بالتنافس في طرح الأجهزة الإلكترونية المتتابعة ووصفه، بأنه سباق محموم نحو اختصار الوقت وتعدد الخدمات. وهو في الواقع لا يعدو كونه سباقاً بين الشركات المنتجة نفسها على اقتسام كعكة الاستهلاك العالمي في تلك الصناعة؛ فالغرض ليس زيادة الخدمة بما يتوافق مع متطلبات المستهلك، بقدر ما هو إيهام لأكثرية المستهلكين، بأن تلك الميزة الجديدة ربما تشكل تغييراً في نظرته إلى الأجهزة السابقة من الشركات المنافسة، أو الأجيال السابقة من الشركة نفسها.
بالطبع هناك نقلات كبيرة في استخدامات التقنية والوسائل أو التطبيقات المنشأة على بعض تلك الأجهزة؛ وهذه أمور تختلف عن التحسينات الشكلية، التي تفاجئنا بها بعض الشركات، لتغري الناس بالإقبال على بعض منتجاتها، من مثل: كون الجهاز يعرف صاحبه بالبصمة، أو كون الشاشات تتعدد حسب التطبيقات المطلوب استحضارها، أو كونه يحوي أصواتاً كثيرة يمكن توظيفها في صناعة أجواء مريحة من إصدارات الجهاز التفاعلية، إلى آخر تلك الاكسسوارات، التي لن تمل الشركات المنتجة من التفنن في إبراز قيمتها.
أما الناحية الثانية، فتتعلق بقلب المثل الشعبي الذي يشير إلى اكتساب الفوارق في المعرفة تبعاً لخبرات الحياة، ليكون: «أصغر منك بيوم أعلم منك بسنة». وفي الواقع، أن التعبير عن هذه الفجوات الثقافية سواء في صيغته الشعبية القديمة، التي تعطي الأكبر سناً ميزة التقدم، أو في صيغته المستحدثة، التي تمنح المهارة التقنية ميزة القدرة على الانسجام مع روح التقنية؛ غير دقيقة في وصف الحالة. وأظن هذه الفوارق تتعلق بالمعرفة، وليست بالعلم. ولهذا وضعت صيغة عنوان هذه المقالة بالتمايز بينهما معرفياً، وليس علمياً.
وعلى هذا الأساس، كان استغرابي كبيراً من اتجاه كثير من مؤسساتنا الأكاديمية إلى تعيين الشباب في اتجاه غريب ومفاجئ في مواقع القرار اعتقاداً منها، بأن ذلك يدفع بالمؤسسة إلى الانخراط في اتجاه إيجابي للجودة؛ وذلك لكون الجودة مرتبطة لديهم بالتطور التقني. وفي هذا التصور نصف الصواب؛ لكن النصف الآخر، أن التقنية ليست هي كل الجودة، بل ليست من الجودة في شيء، إذا كان اتجاهها في الطريق الخطأ. لذلك كان لا بد من وجود الخبرة متصلة بعناصر التقنية، لتوجه القرار نحو الاتجاه الذي يخدم المؤسسة دون أن يخضع بالكامل للتقنية. هي معادلة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة!
- الرياض