لم يكن الوعيُ بعلاقة الشعر باللغة التي يعتمدها مادة أولى غائبا تماما عن تفكير العلماء قديما وحديثا في هذا الجنس من الكلام، فقد عرض لها عددٌ وافر منهم في عدد لا هو بالقليل ولا بضئيل الأهمية من أنواع المصنفات والدراسات. غير أن اهتمامهم بها جاء، في الغالب، عرَضا لا يرقى إلى السّعي إلى التهذيب والتعميق إلا في السنوات الأخيرة.
وإذا اعتمدنا على تجربة العرب مع شعرهم، وهي تجربة تمتدّ على كثير من القرون، عثرنا في مصنفات النقد القديمة خاصة على عبارات كثيرة كان أصحابها يذهبون فيها إلى أن الشعراء لا ينتظر منهم الصدق لأن الذي ينتظر منهم إنما هو « حسن الكلام» و» تجويد العبارة». ثم إن التراث النقدي العربي يزخر بأخبار كثيرة كانت الخصومة فيها بين الشعراء والنحاة شديدة. بل إن في ذلك التراث النقدي فصولا طويلة كان بعض النقاد يخصصونها لـ» أخطاء « الشعراء و»أغاليطهم». وأكثر من هذا كله دلالة على ما نقدّمه ما نجده في ذلك التراث النقدي من أن بعض الشعراء كانوا، عندما يضيّق عليهم النقادُ الخناق ناعين عليهم التجرّؤ على قواعد اللغة والنحو دون أن يقدروا على الردّ عليهم، يقولون على سبيل الاعتذار لأنفسهم « ما ندري ما إذا كان ذلك يستقيم أم لا يستقيم، غير أن له نظائر في كلام المعدودين من الفصحاء» ويسوقون شواهد في ذلك.
وهذا كله، وغيره ممّا هو من قبيله كثير، إنما يدلّ، عند التأمل، على أن الشعراء كانوا يواجهون، ساعة القول الشعري، وإنها لتظل مكتنفة بكثير من الأسرار، النظامَ اللغويَّ الذي يستعملونه في صناعتهم. وفي بعض الأخبار كلامٌ طريف عن ألوان المكابدة والمعاناة التي يمرّ بها بعضُ الشعراء عند مواجهتهم لذلك النظام اللغوي. وإذا كانت تلك الأخبار قد حُمِلت، في القديم، على الدلالة على انتقال قول الشعر من الاسترسال مع الطبيعة إلى العمل الثقافي، كما في المعركة التي اندلعت بين النقاد في شعر أبي تمام، أو اتجهَ بها الباحثون، في بعض الكتابات الحديثة، إلى مسألة العناية بالأشكال والصيغ، فإنها تدلّ أيضاً على أن الشعراء لا يواجهون النظام اللغوي مواجهة المستسلم له المستكين لما في استعماله من قواعد وأعراف.
لا تقتصر مواجهة الشعراء للنظام اللغوي على الوجه الفنيّ الجماليّ مثلما اعتدنا على فهمه في كثير من الكتابات، فمن خصائص هذا النظام أنه، إلى جانب كونه أداة للإبلاغ « أوجدته المجاورة للمحاورة» لا يقتصر على ضمان القيام بوظيفة التخاطب، والسرّ في ذلك أن علاماته تردُ مثقلة بالدلالات والمعاني الرمزية والوجدانية الانفعالية التي تؤثر، تأثيرا عميقا في بعض الأحيان، في علاقاتنا بأنفسنا وبغيرنا. ومن هذه الدلالات والمعاني ما هو تواضعي اصطلاحي حتى كأنه إلى الخلق اللغوي أقرب مثلما هو معروف من أمر مفاهيم من قبيل» الزمان» ( فهو مفهوم مستنبط من الطبيعة لا مرجع له سوى بعض الظواهر غير الدالة عليه). وممّا في هذا الخلق من عجيب الغرائب أننا ونحن نصدّق بما فيه ونعتبره عين الحقيقة كثيرا ما نغفل عن أنه اعتباطي. والاعتباط لا يكمن فحسب في أنه كان بالإمكان إطلاق العلامات، عند وضعها، على غير ما تتسمّى به كأن نطلق لفظة الليل على النهار والنهار على الليل، فهو يكمن أيضاً في أن ذلك النظام، عندما اكتمل، أصبح يوهم بأنه، في بنيته، طبيعيّ والحال أنه مجرد علاقة من العلاقات مع الطبيعة لا أكثر ولا أقل. وهذه العلاقة بين العلامات وأسمائها من ناحية وبين بعضها ببعض من ناحية ثانية، وهي تتراءى على نحو من التقنين والتنظيم عجيب، هي التي يدخل الشعراء في مواجهة معها. فبينما نراها تعتمد على أنها معطى طبيعي لدى سائر المتكلمين نرى الشعراء يتناولونها بالمراجعة. والفعل الذي يمارسه الشعراء على النظام اللغوي قد أطلق عليه النقاد القدامى مصطلح « التذوّق» حينا و»الاختيار» حينا آخر ووصلوه، في معظم الأحيان، بالمادة التي تتكون منها الألفاظ.
هذه المراجعة للنظام اللغوي التي لا تمارس في أي نشاط من النشاطات البشرية تكسبُ الشعرَ خاصية ينفرد بها الكائن الأدبي. فبينما تعتني النشاطات المعرفية بالإخبار عن العالم والوجود نافذة إلى ما تحصل عليه من اكتشافات توسّعُ من مجال سلطان البشرية على الطبيعة بما في ذلك طبيعتهم نفسها وتهتم الفنون بنظرتنا إلى العالم والوجود في إبداعات تحدث وعيا ومتعة، كان الشعراء، مثل العلماء والفنانين، يلتفتون إلى العالم والوجود، إلا أنهم يلتفتون إلى شيء آخر هو اللغة الممثلة له من حيث هي نظام ومن حيث هي أداة للإدراك ووسيلة للمعرفة فيصرفون لها جهد الاستدراك عليها وتهذيبها وإثرائها والتحوير منها. ولمّا كان هذا التحوير، وهو غير مقتصر على استحداث العبارات والصيغ لأنه يمكن أن يتمثل أيضاً في إحياء القديم منها أو في تغيير الرتبة لبعض الاستعمالات والصيغ بتحويلها إلى مراكز الصدارة، من أخطر ما يحمل من تأثيرات كبيرة في النظام اللغوي وما يصاحبه من نظام رمزي وينتج عنه من تحوير في الإدراك نفسه، كان ممّا تتجرّد للسهر عليه فيالقُ متنوعة من المراقبين.
غير أن مثل هذا الفهم الذي قد ينطبق على الشعر يبدو غير منطبق على أجناس أخرى لا يحتفل مبدعوها فيها بتذوق الكلام للاستدراك على النظام الذي يشدّ مكوّناته بعضها إلى بعض. فما الذي يمكن أن يقال في الفنون السردية وحظ العناية فيها بالنظام اللغوي ضئيل حتى وإن ذهب بعضهم إلى الحديث عن شعرية « النثر»؟
لئن بدا أمر السرد أمرًا آخر غير أمر الشعر فإنه لا يقل عنه إسهاما في الإعلان عن الخاصية الخاصّة بالكائن الأدبي، وهي التي قدّمنا أنه لا يشترك فيها معه أي نشاط من النشاطات البشرية القائمة على القول وغيره. والمدخل إلى الوقوف على هذه الخاصية الخاصة تبدو قابلة لأن تلتمس، بالنسبة إلى السرد، في خصائص الجنس الروائي. فهذا الجنس، خلافا للشعر الذي يقوم على كثير من الضوابط، لا يكاد يحدّ سوى بأنه جنس حرّ. ذلك أنه لا قواعد له ولا ضوابط يتقيد بها الروائيون. والمعروف أن الرواية يمكن أن تستوعب في كيانها سائر أجناس الكلام فنجد فيها الرسائل والخطب والأشعار والمشاهد المسرحية فتستوعبها جميعا دون أن يخرجها ذلك عن الانتماء إلى الجنس الروائي. بل إن الرواية تكاد تكون الحرية مِرَاسًا. فلا هي تحدّ بموضوعات معينة ولا بطرائق في السرد محددة. ومع أن علم «السرديات» قد حاول أن يبني كيانه على دراسة هذا الجنس الأدبي ضابطا لموضوعه وملتمسا لذلك طرائق ومنهجيات إلا أنه لم يحصل سوى على إثارة بعض المسائل المتعلقة به كالعلاقة بين الرواية والتاريخ أو المرويّ والواقعي مثلا. أمّا ما زاد على ذلك فمباحث من النوع الذي رأينا أنه يبقى في نطاق الحيّز الذي تشترك فيه الأعمال الأدبية مع سائر الفنون والنشاطات البشرية وهو أدناها وأقلها نفعًا في النفاذ إلى خاصيّة الأدب الخاصّة.
- تونس