«المغامرة ليست خارج المرء، بل داخله!»
جورج إليوت
* في ظلِ «الهجمة التقنية أو الانفجار المعرفي» - ولستُ أدري لمَ على هذه التوصيفات أن تكونَ شديدة العنف- تبدو كتابة اليوميات بشكلها التقليدي فعلاً شبهَ منقرضٍ، ما دام الورق في طور تحوّله إلى منتجٍ تاريخي! فقد حلّت المدوّنات الإلكترونية - سواءٌ أكانت تلك المنفردة بذاتها «”blog على اختلاف المواقع التي توفرّها أو تلك التي تفردها المنتديات لأعضائها، أو الخدمة التي يقدمها موقع «أولايف Oh life « عبر إرساله رسالة إلى البريد الإلكتروني حسب موعد يختاره المشترك يسأله فيها عن مجريات اليوم فيكون رد المشترك صفحة من اليوميات يمكنه استعراضها لاحقاً من الموقع نفسه، أو حتى عبر موقع «لايف جورنال Live journal « الذي يمكّن من إنشاء دفتر يوميات «حي»- حلّت هذه الأنماط كلّها محلَّ دفاتر اليوميات الاعتيادية.
* وقد كانت اليوميات قديماً لا تعدو كونها «فضفضةً» أو بوحاً ذاتياً يمارس فيه كاتبها نوعاً من التطهير أو «الكاتارسيس Catharsis» - إن جاز لنا استعارةَ التعبير من نظريةِ أرسطو في المسرح- حين يعبِّر عن مشاعره وأفكاره بكل انفتاحٍ وشفافية، و لذا ترى أناييس نن أنّ كتابةَ اليوميات تُظهر بعضَ عاداتنا الحسنة، إذ نكتب بصدقٍ وأمانةٍ لأننا نؤمن أنه ليس هنالك من سيطلع عليها سوانا، على الأقل ما لم نسمح نحن بذلك.
* لكن الأمر يختلف حين نتحدث عن «اليوميات الإلكترونية» أو المدوّنات، إذ تنتفي الخصوصية المطلقة التي تتمتّع بها نظيرتها التقليديّة، وبخاصةٍ حين يضع المدوّن في حسبانه حدوداً لعرض «شخصيته» على الملأ سواءٌ أكان ذلك من خلال مراقبته لما ينشر أو من خلال ما توفرّه هذه المواقع من خاصية تسمح للمشترك بالتحكّم في درجةِ الخصوصيّة، برغم أنّ معظم المدوّنين يميل إلىعدم استخدامها، بحيث تظل إمكانية التعليق متاحةً أمام الزوار، وهي بهذا تتحول من مدونة شخصية إلى وسيلة للتواصل الاجتماعي، وفي حين كانت المدونات الشخصية الإلكترونية تشهد إقبالاً كبيراً - حيث صنفت أكثر من 70% من المدونات بأنها مدونات شخصية في دراسة أجرتها أستاذة اللغويات سوزان. سي. هيرينغ ، أو كما أشارت بعض المواقع أن عدد المدونات الشخصية اقترب من 27 مليون مدونة- إلا أنها شهدت تراجعاً ملحوظاً بعد ظهور «تويتر» و»الفيسبوك» اللذين يمكن اعتبارهما شكلين متطورين من اليوميات والمدونة معاً.
وفي كل الأحوال، لا يبدو أنّ المحتوى يختلف في كلّ أشكال التدوين قديمه وحديثه وأحدثه، ففي كل يعمد المدوّن إلى عرضِ روحه وعقله وآرائه في محيطه حتى لو كان ذلك بصيغة «أنا لا أكذب ولكن أتجمّل/ أتطهّر»،وإن كان الشكلُ القديم لا يظهر للنور غالباً إلا بعد موت كاتبه - ما لم تتحفّظ عائلته على نشره- تتيح المدوّنات الإلكترونية لكاتبها نوعاً من الشهرة والانتشار والتفاعل مع ما يكتب في حياته، وقد يصل الأمر أحياناً إلى نشر محتوى المدوّنة في شكل كتابٍ كما نشرت دار الشروق مثلاً مدونة « إسكندرية - بيروت» لنيرمين نزار، أو «عايزة أتجوز» لغادة عبد العال وعنوانين آخرين وكلها من مصر، في حين تشير نتائج البحث إلى أن هناك مدونةً جزائريةً واحدةً تحولّت إلى كتابٍ وهي «عامين اثنين» لعصام حمود، وأخرى لبنانية للإعلامية ريتا خوري نشرتها بعنوان «أسرار صغيرة»، ومثالنا الأخير «غرفة خلفية» للسعودية هديل الحضيف رحمها الله، ولعلّ في ذلك انتصاراً للورق!
* على أيّة حال، تبدو اليومياتُ «التقليدية» لي فعلاً تطهيرياً بامتياز أتخلّص فيه من «هرطقاتي» التي تتزاحم فيها الأفكار وتتدافع في «طوافها» حولي، فأتخلص بها من فائض الصمت وفائض الكلام أيضاً!
- القاهرة