يجد الناظرُ في تراثِ المفكرِ الحلبيِّ، عبدالرحمن الكواكبي (1849- 1902م)، أنَّ له قيمةً محوريَّةً يستمدها من سياقه التاريخيِّ، وهو سياقٌ يبرهن من خلاله هذا التراث على تفرُّدٍ وأصالةٍ في التناولِ، وعمقٍ وتفلسفٍ فريدٍ في الطرح. فلحظتُه التاريخيَّةُ لحظةٌ حرجةٌ؛ إذ الدولةُ العثمانيَّةُ تسيرُ في ثباتٍ نحو نهايتِها، بدءًا من النصفِ الثاني من القرنِ التاسعَ عشَرَ الميلاديِّ، والأقطارُ العربيةُ، التي عُرِفت في أعقابِ الحربِ الكونيَّةِ الأولى بتركةِ الرجلِ المريضِ، ترزح في قيود من التخلف والانحلال، اللذين شلا قدرة الإنسان العربي على الإسهامِ البنَّاءِ في شؤونِ الحياةِ المختلفةِ، وعلى إصابةِ معنى الوجودِ الكريمِ. ولم تغفل فطنة النخب المثقفة عن تَبَيُّنِ مظاهر الانحلال، فاتفقوا على حرج تلك اللحظة التاريخية، ولكنهم اختلفوا في تحديد الأسبابِ وفي تراتبها، وفي الأدوية الناجعة في معالجةِ ظواهرِ التأخرِ. إن اتفاقهم ظاهرٌ في أن قسطًا كبيرًا من مُشْكِلِ التخلف العربي يكمن، حسب مفكري تلك الفترة، في العامل السياسي. ولكنهم اختلفوا في مقاربة هذا العامل اختلافًا تجد ملامحَه في الزُّمَرِ الفكريَّةِ الثلاثِ التي سأستعرضها، ومن مجموع هذا الاتفاق والاختلاف، تتبوأ رؤيةُ الكواكبيِّ للعامل السياسي منزلةً فريدةً من الرؤى الأخرى، كما تضطلع مقاربته للاستبداد برتبتها المحورية ضمن هذه الرؤية.
الرؤيةُ الكواكبيَّةُ، من حيث النسقُ التاريخيُّ، في منزلةٍ بين منزلتين، وهذا المصطلحُ، الذي سكَّه المعتزلة في القرن الثامن الميلادي؛ لوصف حالِ مرتكب الكبيرة بأنه متوسطٌ بين منزلة الكفر ومنزلة الإيمان، خضع في سياق هذا الدراسة لتعديلين منهجيين: أولهما، الإخلاء، وبه أعني إفراغ المصطلح من حمولته العقائدية، مع الحفاظ على دلالته اللغوية، والآخر، الإحلاء، وبه أدل على شحن المصطلح بدلالة زمنية فكرية، وعليه يكون معنى المنزلة بين المنزلين التالي: التَّوسُّطُ المدلولُ عليه بخصائصَ مائزةٍ لفكر الكواكبي السياسي بين مرحلتين فكريتين: سابقةٍ ولاحقةٍ، وهو توسط له دلالة تحقيبية، فهو من جهة، يشير إلى تشابه مفضٍ إلى اتصالٍ بين الزمر الفكرية الثلاث: فكر الكواكبي، وما سبقه، وما تلاه، ومن جهة أخرى، يرمز إلى اختلاف مؤدٍ إلى انفصال بينها، ومن هذا مجموع هذا التشابه والاختلاف، تجد ما أعنيه بتفرد التناول، وفلسفية الطرح.
أما المرحلةُ السابقةُ للكواكبيِّ، فهي منزلةُ تناولِ العاملِ السياسيِّ من حيث الدعوة إلى نبذ الفرقة والاختلاف، ويبرز فيها نهجان فكريان متمايزان، أولهما: الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وأعلامُ هذه الدعوة كثرٌ، أبرزُهم: جمال الدين الأفغاني (ت1897م)، وتلميذُه محمد عبده (ت1905م)، وتلميذُ تلميذه محمد رشيد رضا (ت1935م). والآخر: الدعوة إلى بناء مفهومٍ محدثٍ للهويةِ، مُؤسَّسٍ على إلغاءِ دورِ العاملِ الدينيِّ في تكوينِ الطبقاتِ الاجتماعيَّةِ، وإحلالِ العاملِ اللغويِّ بديلاً عنه؛ ذلك أنه السبيلُ إلى خلقِ مجتمع عربي ذي مواطنةٍ متحررةٍ من التعصبِ للدينِ، أو الطائفةِ، أو المذهبِ، وعلم هذه الدعوة بطرس البستاني (ت1883م).
اتسمت دعوةُ الأفغانيِّ إلى الجامعة العربية بميسم حضاري، ميسمٍ مبنيٍّ على التنبه إلى اختلال موازينِ القوة بين الشرق والغرب، ومُؤسَّسٍ على ابتغاء أسباب القوة في الاتحاد الإسلامي، حتى تكون العلاقة علاقة تكافؤٍ بين الغربِ المسيحيِّ، والشرقِ الإسلاميِّ. تأمل هذا الاستفهامَ الصادعَ بالبعدِ السياسيِّ للوحدة في قول الأفغاني:
«هل آن الأوان ليصبح العالم الإسلامي من أدرنة إلى بيشاور دولةً إسلاميةً متصلة بالأرض متحدة العقيدة يجمع أهلها القرآن...؟! أليس لكل واحد منهم أن ينظر إلى أخيه بما حكم الله من قوله: (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)...فيقفون بالوحدة سدًّا يحول عنهم هذه السيول المتدفقة عليهم من جميع الجوانب؟! لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصًا واحدًا. فإن هذا ربما كان عسيرًا ولكن أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين..ولكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته، وبقاءه ببقائه» (الأفغاني وعبده، 2003م، ص 73)
هذا القول يؤسس الوحدة على ثلاثة أبعاد: اتصال الجغرافيا، ووحدة الدين، وكفاءة الخطاب الصالح لتنظيم مناحي الحياة كافة: القرآن، إنَّ وعيَ الذاتِ الإسلاميةِ، كما يشير إليها خطاب الأفغاني، وعيُ ذاتٍ قلقة تستشعر دونيتَها وتأخُّرَها عندما تحاول استبصارَ ذاِتها في مرآةِ آخرها: الغرب، فيكون ردُّها ردةً إلى الماضي، أما قلقُها وشعورُها بدونيتها فناشئان عن البونِ الحضاريِّ الشاسعِ الذي يفصلها عن ندِّها، وأما ردتُها إلى الماضي فمحاولةٌ لتعويض نقص اللحظة الراهنة بكمال اللحظة الفائتة. وفي الفصل الذي عقده ألبرت حوراني للأفغاني، يؤكد انشغالَ الأفغاني بالمواجهة السياسية التي كان على الدول الإسلامية أن تخوضها مع الأوربيين، ثم تبرُّمَه من الهيمنة الأوربية التي أفضت إلى أن يكون للأوربيين تأثيرٌ واعتبارٌ في القضايا السياسية، حتى تلك التي لا تخصهم بصفة مباشرة. وتجد إشارةً إلى سعيه لتوحيد العالم الإسلامي في شقيه: السني ممثلا بالدولة العثمانية، والشيعي ممثلا بالدولة الصفوية. ولكن حوراني يؤكد أن القضية الأساسية لديه ليست سياسيَّةً بالدرجة الأولى، وإنما هي تربويةٌ إصلاحيَّةٌ، قائمةٌ على ضرورة توجيه المسلمين لفهم دينهم الفهم الصحيح؛ إذ إن هذا الفهم سبيلهم للقوةِ: المطلبِ العزيزِ في المواجهة غير المتكافئة مع الغرب المسيحي. وإذا تأملت ما يعده حوراني أساسيًّا وثانويًّا في نهج الأفغاني، في ضوء المقتبس من كلام الأفغاني السالف، فإنك لن تخطئ ترابطًا عضويًّا بين الديني والسياسي، يكشف عن تصور الأفغاني للوحدة أو الجامعة الإسلامية. تَصوُّرٌ قاد حوراني إلى التأكيد أن الأفغاني لم يكن ليمانع من وجود حاكم مطلق مادام يُحَكِّمُ الشريعةَ ويسيرَ بهديها.
لكنَّ هذا الترابطَ العضويَّ المعلنَ بين الدينيِّ والسياسيِّ في مفهومِ الأفغانيِّ للجامعةِ الإسلاميةِ آل إلى المواربةِ، ومعه أخذَ المفهومُ يتبلورُ في صيغةٍ جديدةٍ، تتخلَّصُ من الإصر الذي لا يطاق في معارضة القوى السياسية، والشاهدُ التاريخيُّ الذي يصدِّقُ هذه المقولةَ هو المفهومُ الذي تبلورَ في تجربةِ رشيد رضا من حيث انصياعُه للظروفِ التاريخيَّةِ ونزوعُه بالمفهوم- من خلال (المنار) التي أكدت على اقتفاء (العروة الوثقى)- منزعًا مسالمًا، يُباشر فيه مفهومُ الجامعةِ الإسلاميةِ من الوجهة التربوية. وينقل فهمي جدعان؛ ليؤكد انسلاخًا جزئيًّا للمفهوم عن الحدَّةِ السياسيَّةِ، مفهومًا بلوره رشيد رضا في نقطتين، أولاهما: رابطةُ الأخوَّةِ الدينيَّةِ الضامِّ للمعتقدين بالإسلام، والأخرى: رابطةُ المشاركةِ الوطنيَّةِ التي تقتضي الاحتكامَ العادلَ إلى الشرعيَّةَ بين شركاءِ القطرِ من ذوي المللِ المختلفةِ. ورضا، في ضبطه للنقطة الأولى، يظهر فهمًا تاريخيًّا، يتضح من خلال وعيُه بانحلال الرابطةِ الدينيَّةِ، ولكنه لايغفلُ توثيقها عبر عددٍ من الإجراءاتِ التي اتخذت أربعَ سماتٍ، الأولى: الثقافية، كالوعي بالتاريخ المشترك للشعوب الإسلامية، والثانية: الدينيَّة، كالتلاقي والتعارف عبر مواسم الحج، والثالثة: التربويَّة، كالاتفاق على وحدة التربية والتعليم، والأخيرة: النفعيَّة، كالاشتراك في المشروعات النافعة. أما المفكرُ العراقيُّ البزازُ فإنه يتبنى مزاجًا فريدًا بين القوميَّةِ العربيَّةِ والدينِ الإسلاميِّ؛ ذلك أنَّ الإسلامَ دينُ العربِ قبل أن يكونَ دينًا عالميًّا، وأن العروبةَ صلاتٌ لغويةٌ، وتاريخيَّةٌ، وروحيَّةٌ، وأدبيَّةٌ، ومَصْلَحِيَّةٌ، يوثِّقُها الإسلامُ ولا يعارضها (جدعان، 1988م).
وأما نهجُ بطرس البستاني، فدعوته إلى إحلال اللغة العربية مقوِّمًا للهوية يوحِّدُ بين سكان سورية، ثم بين المتكلمين بالعربية في الشرق الأدنى ?تزدوج بدعوته إلى الولاء للعثمانيين، لقد دعا البستاني السوريين، مهما كانت انتماؤهم الديني أو خلفياتهم المذهبيَّة، إلى نبذ الفرقة والاحتراب الناجزين عن العامل الديني، وإلى الانتماء للعربية، وهو انتماءٌ يضمن اتحاد مكوناتِ مجتمعٍ ذي مقوماتٍ ثلاثٍ: اللغةِ، والجغرافيا، والحضارةِ. وهذا الاتحاد مفضٍ إلى مواطنة مَدَنِيَّةٍ، هي الطريق إلى المساواة والتسامح الديني بين كل مكونات المجتمع، والعثمانيون-في نظر البستاني- هم الضامنُ الموثوق والراعي المؤتمن على هذه المساواة، وموقف البستاني المؤيِّدُ لبني عثمان مبنيٌّ على تفاؤله بالإصلاحات التي أعلنتها الأستانة في 1856م، والمعروفة بالتنظيمات/خط هيوماني (Jandora, 1984).
أما المنزلةُ اللاحقةُ لفكرِ الكواكبي، فهي منزلةٌ يُتَناول العاملُ السياسيُّ فيها من خلال منظورين: الأول: منظورِ التربية السياسية، والآخر: منظورِ التنظير السياسي. أما المنظورُ الأولُ، فمنظورُ ما بعد الاستبداد، ويمكن تحديدُه تاريخيًّا بالانقلاب الدستوريِّ العثمانيِّ سنة 1908 م، كما يمكن ترميزُه بشخصية المفكرِ السوريِّ عبدالحميد الزهراوي الذي تبنى خطابًا إصلاحيًّا قائمًا على أسس: «مكافحة التحجر الفقهي، والعطالة الصوفية، وتقديس التاريخ والأزمنة» (جدعان، 1988م، ص 312). وموقعُ خطابِ الزهراوي من العامل السياسي، الذي هو محور القول في معالجة مشكل التخلف العربي? موقعُ علم الاجتماع من علم السياسة. فالزهراوي لا يفكر، كالكواكبي، في إصلاح الإنسان الرَّازِحِ في نَيْرِ الاستبداد، وإنما يفكر في إصلاحِ إنسانٍ نال حقوقَه وفقَ دستورٍ، فهو ضربٌ من التربيةِ السياسيةِ لإنسان ما بعد الكواكبي/إنسانِ ما بعد الاستبدادِ (جدعان، 1988م). والمائزُ في خطابِ الزهراويِّ خصيصتان: الأولى: أنَّه خطابٌ إصلاحيٌّ يمسُّ الذاتَ العربيَّةَ في مكونٍ ثقافيٍّ من أهم مكوناتها، أعني المكونَ الفقهيَّ الذي حدد علاقات هذه الذات ورسم الحدود الدينية لعلاقاتها الدنيوية والأخروية. وفي عبارة أخرى، فإنَّ المكونَ الفقهيَّ، الذي لا يزال حتى يومنا هذا يتمتعُ بقدسيَّةٍ في الذاتِ العربيَّةِ، أُنزِلَ من رتبةِ التسليمِ المطلقِ بمحتوياتِه، إلى رتبةِ التفكيرِ فيها والمناقشةِ لها والاختلافِ حولها. والخصيصةُ الأخرى: أنه خطابٌ جريءٌ لا يرعوي عن الصدع بما يؤمن به، وقد بذل الزهراوي حياتَه ثمنًا لهذا الخطابِ فكان ضمن من أعدمتهم الأستانة من المثقفين العرب سنة 1915م.
أما المنظور الآخر، فمنظورُ ما بعد الخلافة. وهو منظورٌ يوسم بالتغريب، ويُرَمَّزُ بعقول الليبرالية العربية، من أمثال: لطفي السيد، وسلامة موسى، وطه حسين، وإسماعيل مظهر، وآخرين. ودعوة هذا التيار ترتكز على تحرير العقول من السلطات المقيدة لحركتها في علاج كلِّ ما يعوق رقيَّ الإنسان العربي، ومن ضمن تلك السلطات الدينُ والتراثُ (جدعان، 1988م). لكنَّ التطورَ النوعيَّ في هذا التيارِ ينسبُ لفكرةِ الإسلامِ السياسيِّ كما بلورها الأزهريُّ على عبدالرازق (ت1966م). إنَّ السياقَ التاريخيَّ لفكرة عبدالرازق هو مرحلة ما بعد الخلافة، فصدور كتاب (الإسلام وأصول الحكم) كان سنة 1925م، أي بعد سنة واحدة من إلغاء كمال أتاتورك لنظام الخلافة الإسلامية، وكان الاهتمامُ الفكريُّ العربيُّ في تلك المرحلة مُنْصَبًّا على مناقشة ضياع الخلافة، والبحثِ عن البديل الشرعي لهذا النظام الذي كان له على الذات العربية سطوةٌ لا تقل عن سطوةِ المقدَّسِ. وكتاب عبدالرازق يمكن قراءته من منظورِ أنَّه محاولةُ لزلزلة هذه السطوةِ في النفوسِ:
«والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها...لاشيء في الدين يمنع المسلمين أن...يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية»(2000 م، ص 182)
أثار كتابُ عبدالرازق زوبعةً فكريَّةً وسياسيَّةً، انتهت بمحاكمته، ونزع لقب العالِميَّةِ عنه، وتجريده من وظيفته في القضاء. ولذلك النزعِ، وذا التجريدِ، دلالةٌ رمزيَّةٌ تُسَوِّغُ لوصف عبدالرازق بالتغريبيِّ. فالناظرُ في كتابه يجد أنَّه، على الرغمِ، من سعيه الحثيثِ لسرد الآيات القرآنيَّةِ والأحاديثِ النبويَّةِ والسِّيَرِ؛ في مسعى قاصدٍ لتأكيدِ الانتماءِ إلى المرجعيةِ الروحيَّةِ للثقافةِ العربيَّةِ مباينٌ للنظر الأزهري في النصوص؛ فتأويلُه لها، واستخلاصُ الأحكام من دلالتها كان -كما تثبت وثائق محاكمته- محلَّ النزاعِ (عمارة، 2000م)، والمسوغَ لنزع العالِمية؛ ومن ثَمَّ نزع الشَّرعيَّةِ الأزهريَّةِ عن الكاتب، حتى لا تأخذَ فكرتُه الزخمَ الدينيَّ/الدعائيَّ اللازمَ لتثبيتها في نفوسِ الجماهير.
وبعد تَبَيُّنِ ملامح تين المنزلتين، فإن سؤالاً لايفتأُ يواجهُ متَتَبِّعَ الرصدِ السالفِ عن طبيعةِ هذا التعالق بين الجامعةِ الإسلاميَّةِ والدولة العثمانيَّةِ، وعن موقع الرؤيةِ الكواكبيَّةِ من هذا التعالق. والإجابة على هذا السؤال تبدأ أولا من تقرير فكرتين جدليَّتين:
أولاهما: أن الجامعةَ الإسلاميةَ في وعي الذات العربيَّةِ مبدأٌ دينيٌّ لا خلافَ حولَه. وإنما الخلافُ حول توظيفِهِ السياسيِّ (العقاد،1959م).
الأخرى: أن النموذجَ المثاليَّ للحكمِ في الذاتِ العربيَّةِ (والإسلامية، من منظور أشمل)، هو نموذجُ الخلافةِ السنيِّ (أو الإمامةِ الشيعيِّ)، وكلاهما مبنيٌّ على فكرةِ هذه الجامعةِ، ومن نتائجِ هذه الجامعةِ ثار الجدلُ حول اجتماع شخصيتي المرشدِ الروحيِّ والزعيمِ السياسيِّ في شخص الخليفة، (أو شخص الإمام)، كما اجتمعتا من قبل في شخصيةِ الرسول محمد صلى الله وسلم عليه (AnNa›im, 2008).
ومن وجهة تاريخية، فلم يسبق لسلاطين الدولة العثمانية قبل السلطان عبدالحميد الثاني، الذي حكم بين عامي 1876 و 1909م ?ادعاءُ الخلافةِ، ذلك أنَّ الفقهاءَ شرطوا لها شروطًا، فالسُّنَّةُ يتسعون فيها فيجعلونها في آل البيت أوفي القرشيين، أما الشيعة فلا يجاوزون بها ولد علي بن أبي طالب (القاسم، 1997م). ولم يكن عبدالحميد الثاني غيرَ مُتَفَطِّنٍ لحساسية هذه القضية في العالم الإسلامي؛ فمبنى دعوته كان على ركنين: جامعةٍ إسلاميَّةٍ وخلافةٍ عثمانيَّةٍ، والعقادُ يرى أن عبدَالحميد اضطر إلى إعلان هذه الخلافة اضطرارًا؛ فلا سبيل سواه لكسب تأييد العالم الإسلامي في مواجهة الخطر الأوروبي المحدق به، والذي ظهرت بوادره في البلقان، وهذا الإعلان، في رأي العقاد، ضربٌ من الدعاية السياسيَّة الذكية التي اشتُهِرَ بها عبدُالحميد ونظامُه، والعقاد يستند في ذلك إلى قولة الكواكبي إنَّ الدينَ لم ُيوظَّف من قادة بني عثمان»لغير التلاعب السياسي وقيادة الناس إلى سياستهم بسهولة، وإرهاب أوروبا باسم الخلافة واسم الرأي العام» (1959م، ص 135).
وأما موقعُ الكواكبي في سياق هذا البعد الفكريِّ التاريخيِّ فيتضح من خلال تقرير أمرين مهمين:
أولهما: ينتهي نسبُ الكواكبيِّ إلى النسبِ النبويِّ، باتصال نسبه بعلي ابن أبي طالب. وأهمية هذا الأمر عائدةٌ إلى المكانة النَّسَبِيَّة التي تخوِّلُ الكواكبيَّ لاستحقاق الخلافة (أو الإمامة)، والإشارة إلى هذه المكانة للدلالة على الوعي المفارق الذي ستجده في نظرات الكواكبي السياسية لمفهوم الخلافة.
الآخر: الكواكبي يقرر انفصالاً بين السلطة الدينيَّةِ والسلطة السياسيَّةِ، ويُسمَّي الأولى الخلافةَ والأخرى الحكومةَ الإسلاميَّةَ. وهو يسلك للأولى مسلكَ تعريةِ الحكمِ العثمانيِّ بنزعِ الصفةِ الدينيَّةِ عن ممارساتِ الحكَّامِ العثمانيين السياسيَّةِ، وحتى تقعَ هذه التعريةُ موقعَها الذي أراد في وعي الذات العربية، فقد تَخَيَّرَ لتحليله التاريخيِّ حدثًا يُوقنُ أنَّ له بعدًا غائرًا في وجدان هذه الذات؛ لارتباطه بالأندلس المفقود، وفاتح القسطنطينية: محمد الفاتح (1481م). يقول:
«إني أذكر لك نموذجا من أعمال لهم أتوها رعاية للملك وإن كانت مصادمة للدين...فهذا السلطان محمد الفاتح، وهو أفضل آل عثمان، قد قَدَّمَ الملك على الدين، فاتفق سرًّا مع فرديناند ملك الأرغون الإسباني ثم مع زوجته إيزابيلا على تمكينهما من إزالة ملك بني الأحمر، آخر الدول العربية في الأندلس، ورضي بالقتل العام، والإكراه على التنصر بالإحراق...وقد فعل ذلك بمقابلة ما قامت له به روما من خذلان الإمبراطورية الشرقية عند مهاجمته مكدونيا ثم القسطنطينية» (1975م، ص 365)
وهذا القولُ يبعثُ في وعي الذات العربية إشكالاً مزدوجًا؛ فالحديث النبوي ينصُّ على الثناء على فاتحِ القسطنطينيةِ، وهذا القول حينئذ معارضٌ للمرجعيَّة الروحيَّةِ، والمسلمون يرون في الدولةِ العثمانيةِ عزَّةً للدين، وهذا القول يظهر تفضيل العثمانيين للمصلحة السياسية على الدين. ولكن هذا الإشكال لا يلبس أن يزول؛ لأمرين، أولهما: أن الحديث المزعوم حديث ضعيفٌ لا يحتج به (الألباني، 878)، فلا تعارض، والآخر: أن اتصاف الدولة العثمانية بالإسلامية لا يستلزم عصمتَها من العثرات السياسية التي قد تضر الإسلام والمسلمين، بَلْه عصمتَها من النقد بكشف تلك العثرات.
أما الحكومةُ، فهو يرى «أنَّ الإسلاميَّةَ مؤسسَّةٌ على أصولِ الإدارةِ الديمقراطيَّةِ، أي العمومية، والشورى الأرستقراطية، أي شورى الأشراف» (الكواكبي، 1975م، ص 147). والإشكال المثار هنا بسبب من المكانة النَّسَبِيَّة للكواكبي: أيقصد ذوي الأنساب الشريفة كنسبه؟، أو بصياغة أخرى: أيُّ امتيازٍ يؤهلُ الإنسان ليكون من ذوي الشورى؟ تقتضي الإجابة عن هذا السؤال أولا تَبَيُّن نوعي السلطات في هذا الرأي. حاصل كلام الكواكبي أنَّ الإدارةَ، أو قل السلطة التنفيذيَّةَ، شأنُ العامة، أما الشورى، أو قل السلطة التشريعيَّةَ، فشأنُ الخاصة: الأشرافِ. والمفكرُ المعاصر محمد عمارة يرى، بناء على نصوص للكواكبي قاطعةِ الدلالةِ، أنه لا يقصد حكرَ السلطة التشريعية على ذوي الامتيازات الاجتماعية، وإنما ينسب الشرف إلى المهمةِ الرقابية التي يضطلع بها الأعضاءُ المُشَرِّعون، والعناءِ الذي يلقونه في الاحتسابِ على السلطةِ التنفيذيَّةِ، «فهي مهمة مخصوصة، ينهض بها الخاصة من أهل الذكر والاختصاص» (1988م، ص 89).
أمَّا منزلة الكواكبي، فهي منزلة قائمة على التفكير في المسألة الاجتماعية من وجهة سياسية، فانحطاط الشرق عائدٌ إلى «الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية»(ص 30)، والاستبداد، في نظر الكواكبي:»صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً، أو حكمًا، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَين. وتفسير ذلك هو كون الحكومة إما غير مكلفة بتطبيق تصرفها على شريعة أو على أمثلة تقليدية أو على إرادة الأمة، وهذه حالة الحكومات المطلقة، أو هي مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى»(ص، 37)، وظاهر في هذا التعريف أن الكواكبي يُؤَسِّسُ مفهومَ الاستبدادِ السياسي على أمرين: إمَّا أن تكونَ السلطاتُ الثلاث تحت سيطرة أفراد لا يلتزمون بتطبيق قانون أو موافقة عرف أو مسايرة التوجه العام للشعب المحكوم، وإمَّا أن تكون السلطاتُ منفصلةً وعليها قيودٌ، لكنَّ للسلطة التنفيذية الإخلالَ بما تشاء من مقتضيات القانون أو العرف أو الإرادة الشعبية.
ويلح الكواكبي على أن الدينَ يُرَسِّخُ الاستبدادَ السياسيَّ في ا لمجتمعات، ويقوي نفوذه في النفوس، وليس هذا القول على إطلاقه؛ فالمسألةُ فيها تفصيلٌ. بخلاف ما يلزم من هذا القول، من وسم فكر الكواكبي بالميسم العَلماني؛ فإن الكواكبي، والحالة هذه، يقاربُ هذه المسألةَ بوعيٍ دينيٍّ ملتزمٍ ماثلٍ في نقدِ مظاهر التَّديُّنِ، والمتدينين، لا الدينِ نفسِه. وهذا النقدُ يبتدئُ من تحليلِ المشاكلةِ بين انصياع الناس لسلطة الدين وانصياعهم لسلطة السياسة، فرغبةُ الإنسان في الإيمان بقوةٍ خارقةٍ تدفعه إلى الانقياد للإله، أو «حاكم القلوب» كما تدفعه إلى الخضوع للسياسي، أو «حاكم الأجساد» - كما وصفهما الكواكبي- ، لكن هذا القول، وإن صدق على تاريخ الأساطير والديانتين:المسيحيةِ واليهوديةِ، لا ينسحب، في نظر الكواكبي،على الإسلام، ولا على الخطابِ القرآنيِّ الذي جاء صادعًا برسالةِ تحريرِ الإنسان وإرساء العدل. إنَّ الاستبدادَ، من جهة علاقةِ الدين بالسياسة، ناجزٌ عن انجرار العوامِّ إلى المشاكلةِ بين القوتين الإلهيَّةِ والبشريَّةِ، ثم الخضوعِ لأخراهما كالخضوعِ لأولاهما، وهو خضوعٌ تسري آثارُه في جميع مناحي الحياة، فلغةُ الخُضَّعِ، مثلاً، تمتلئ بالتعابير التي تُسْبَغُ فيها صفاتُ الألوهية على السَّاسَة، فالفعَّالُ المطلقصفةً لله- ظهرت في عبارة: الحاكمِ بأمره، والذي في سمائه «لا يُسألُ عَمَّا يَفْعَلُ» أصبح في الأرض الحاكمَ الذي لا يؤاخذ على أفعاله. إن نقدَ الكواكبي لهذا الاستخذاء الذي تَمَكَّنَ من وعي العامة فحرفهم عن حقائق الدين إلى مظاهرَ زائفةٍ من التدين، وعاج بهم عن حقيقيةِ الاستسلامِ لله إلى وهمِ تأليهِ البشر?ليس إلا وسيلةً لتصحيح وظيفة الدين في المسالة الاجتماعية.
فالإسلامُ جاء «مُحَكِّمًا لقواعد الحرية السياسيةِ المتوسطةِ بين الديمقراطية والارستقراطية؛ فأسَّسَ التوحيدَ، ونزع كلَّ سلطةٍ دينيَّةٍ أو تَغَلُّبِيَّةٍ تتحكم في النفوس أو الأجسام، ووضع شريعةَ حكمه إجمالية صالحة لكل زمان ومكان، وأوجد مَدَنيَّةً فطرية سامية، وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التي لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشر...على أن الطراز السامي من الرياسة هو الطراز النبوي المحمَّدي، لم يخلفه حقًّا غير أبي بكر وعمر ثم أخذ بالتناقص، وصارت الأمة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان إلى الآن...، ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب؛ تلك الأمم التي، لربما يصح أن نقول، قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاده المسلمون.» (ص ص، 5051)
يُمكن، بناءً على هذا الاقتباسِ، استنتاجُ سمتين للفكرِ الكواكبيِّ السياسي، أولاهما: التوسُّطُ، وهو يُوظِّفُ هذه الفكرةَ التي تضرب جذورها عميقًا في التراث الإسلامي لضبط مفهوم الحرية السياسية، فهي توسط بين انفلات الديمقراطية وجبر الأرستقراطية، حريةٌ مضبوطةٌ بشريعة، هادمةٌ لضروب التسلُّطِ الديني أو الدنيوي على النفوس والأجساد. وأخراهما: التكامل، وهو ماثلٌ في ضربين: الأول، التكامل بين النص والواقع، وهذا من لوازم وصف النص الشرعي بالإجمال، فالنصُّ الشرعيُّ المجملُ يُلزِمُ المؤولَ الراميَ إلى استنباطِ حكمٍ وتنزيله على واقعةٍ معاصرةٍ بمراعاة قرائنِ الحال وشواهد الزمان والمكان، وهي قرائنُ وشواهدُ لا بد أن تترك أثرًا على التأويل واستنباط الحكم، وهو أثرٌ، لا شك، يثري تنوع المنظومة الفقهية إثراءً لا يراد به مناقضة مقاصد التشريع، ولا مناكفة قواعد الأحكام. والضرب الآخر: التكامل بين النظرية والتطبيق، وهذا ماثلٌ في مجيء الإسلام بالشريعة، وفي إيجاده للمدنية الفطرية السامية، ويَمْثُلُ بوضوح أكثرَ في تجسيد طرازٍ رئاسي هو النموذج للحكم الرشيد في الإسلام، وهو طرازٌ مفقودٌ، أصابته بعض أمم الغرب وضل طريقه المسلمون.
وكما رَازَ الكواكبيُّ العلاقةَ بين الاستبدادِ والدينِ، تجده يُشرِّح العلاقة بين الاستبداد والعلم. وهو تشريحٌ يروم إعادةَ ترتيبِ أولويات المنظومة المعرفيَّةِ وفقًا لحاجات المجتمع الخاضع لسلطة المستبد، والكواكبي، في هذا السياق، يُؤَسِّسُ قيمةَ كلِّ علمٍ على تطبيقاته النفعيَّةِ، ومن جهة أخص، دورُها في هدمِ سلطاتِ المستبدِّ على النفوس والأجسادِ، فالمستبدُّ لا يخشى علومَ اللغة، ولا علوم الدين، ولا العلوم التطبيقية، ما دامت- هذه العلوم- معارفَ نظريةً لا تُنْهِضُ الأفهام الراكدة، ولا ترفع الغباوة عن العقول، ولا تبني إنسانًا بعيد النظر، وإنما خشية المستبد من «علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدينة، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تُكبَّرُ النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ...والخلاصة أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظات كثيرة كأن ها مكتبات مقفلة!
...والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إرادة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل».(ص ص،66-67)
إن المستبد يقاوم كل معرفة يمكن أن تحرر إنسان الاستبدادِ الفاقدَ للإرادة من قيود انحطاطه. وشرُّ مصائب الاستبداد إنتاجُ إنسانٍ جبريٍّ خانعٍ، لا يهم إلى الرقي والتقدم، إنسانٍ عميت عليه أهداف الحياة، وعلل عجزه عن العيش الكريم بالرغبة عن الدنيا والطمع في نعيم الآخرة، إنه إنسانٌ «يعيش خاملاً خامدًا ضائع القصد، حائرًا...كأنه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب...يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، فبعدها جنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعده له الرحمن، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وأنه ربما كان خاسر الصفقتين» (ص، 129).
إن تربية هذا الإنسان، أو قل إصلاحه وتنويره، أو إعادة تبصيره بأهدافه في هذه الحياة بدايةُ الطريق إلى الترقي، إنسان الاستبداد إنسان ساكنٌ، أو متحركٌ حركةً لا طائل وراءها، إنسانٌ هابطٌ، «فالترقي هو الحركة الحيوية أي حرية الشخوص، ويقابله الهبوط وهو الحركة إلى الموت أو الانحلال أو الاستحالة أو الانقلاب»، ولهذا الترقي الحيويِّ مدارجُ تبدأ من الترقي الفطريِّ في البدنِ بالتلذُّذِ بالصحة، وفي القوة بالعلم والمال، وفي النفس بالخلال، وتمر بالعائلة، فهي النصير يستغني به الإنسان عن الآخرين، وتنتهي بالإنسانية والترقي الروحي استعدادًا للحياة الأخرى. وحركةُ الإنسان حركةٌ دوديَّةٌ بين اندفاعٍ وانقباضٍ، فالإنسان بفطرته، تواقٌ إلى الترقي، «تدفعه الرغائب النفسية والعقلية»، وفي الآن ذاته، مُواجَهٌ بتحديات، حيث «تقبضه الموانع الطبيعية والمزاحَمَةُ». والترقي يحصل بالتوازن بين الاندفاع والانقباض، وإذا ما اختل هذا التوازن، اختلفت نتائجُ الحركةِ الإنسانية، يقول الكواكبي:»الاندفاع إذا غلب فيه العقلُ النفسَ، كانت الوجهة للحكمة، وإن غلبت فيه النفسُ العقلَ، كانت الوجهة للزيغ. أما الانقباض فالمعتدل منه هو السائق للعمل، والقوي منه مهلكٌ مُسَكِّنٌ للحركة، والاستبداد المشؤوم الذي نبحث فيه هو قابضٌ ضاغطٌ مُسَكِّنٌ»(ص،144)
وبعد هذه التفريعات والعلائق التي يحلل من خلالها الكواكبيُّ دورَ الاستبداد في التخلف الاجتماعي، نجده يطرح حلولَ هذه الظاهرةِ، من خلال تعليقه على «مبحث السعي في رفع الاستبداد»، وهي ثلاثة سماها قواعدَ رفع الاستبداد:
«1- الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
2- الاستبداد لا يقاوم بالشدة وإنما يقاوم باللين والتدرج.
3- يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد.» (ص،179)
تنمُّ هذه القواعدُ عن وعي الكواكبيِّ العميقِ بالسننِ الكونيَّةِ للتغييرِ، فهو يشرط للتخلُّصِ من الاستبداد انتشارَ الوعي بقيمةِ الحريَّةِ، وهذا الانتشارُ وسيلةُ تأسيسِ بنيةٍ تحتيَّةٍ قويَّةٍ، تعدُّ المجتمعَ للَّحظةِ الحرجة التي يرتفع فيها الاستبداد، وارتفاعه ليس ارتفاعًا جذريًّا، بل هو وليد إجراء تدريجيٍّ ليِّن، وهذا الإجراء يبدو مواكبًا لانتشار الوعي بقيمة الحرية، فالتغيير ناجزٌ عن الوعي، والتدريج واللين هنا ناجزان عن أن انتشار هذا الوعي لا يتم أيضا دفعةً واحدةً، في برهةٍ محدَّدَةٍ. إن تفضيلَ اللينِ على العنفِ يؤشر على بعدٍ استشرافيٍّ، يؤكد حرصَ الكواكبيِّ على الأرواح، كما يؤكد فقهَهُ لحيوات الأفكار، فالحريةُ، بصفتها وعيًّا يجب تعميمه؛ لتغيير الأفئدة والعقول التي عانت الاستبداد طويلا?أدعى للبقاء، وأمكنُ تأثيرًا في النفوس، وأكثرُ استجلابًا للأنصار، متى رافقت الدعوةَ إليها فضيلةُ اللين، واتسم الداعي بالصبر والسعي لإحراز نتائج - غير لحظية- على مدى زمنيٍّ طويلٍ. أما القاعدة الثالثة، فهي تشير إلى غائيَّةِ فكر الكواكبي، فهو مفكرٌ نفعيٌّ من الدرجة الأولى، إذ الهدف ليس رفعَ الاستبدادِ وآثارَه الخبيثةَ على المجتمع، وإنما تجاوزُ ذلك إلى أمرين، إلى استحداث نمطِ حياة الترقي، نمطِ المجتمع الحر، مجتمعٍ متحرِّكٍ، إنسانُه مندفعٌ، منقبضٌ في توازنٍ، لا تختلط عليه مفاهيمُ الوجود الكريم، ولا تغتصب حقوقَه الساسةُ، وإلى استحداث نمط رئاسي سامٍ، متوسط بين الديمقراطية والأرستقراطية، نمط يجتهد لأن يتشبهه بالحكومة الإسلامية الأولى التي اهتدى إليها الغرب وضل عنها الشرق، ولعله النمط الذي يبذلُ قومُ الكواكبي، في حلب وفي جوارها العربي المضطرب هذه اللحظات، وبعد أكثر من قرنٍ على رحيله دماءَهم الغالية رخيصةً في سبيله.
***
مصادر الدراسة:
الكواكبي، عبدالرحمن. الأعمال الكاملة. دراسة وتحقيق: محمد عمارة. القاهرة: دار الشروق، 1975م.
- طبائع الاستبداد. تقديم: أسعد السحمراني. بيروت: دار النفائس، 2007م.
المراجع:
الأفغاني، جمال الدين؛ و محمد عبده. العروة الوثقى. إعداد وتقديم: سيد هادي خسرو شاهي. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2002م.
الألباني، محمد ناصر الدين. ضعيف الجامع. مصدر مثبت على الشبكة العنكبوتية. استُحضِرت المعلومة، في السابع من ديسمبر 2012م:
http://www.dorar.net/enc/hadithالجزيرةskeys=القسطنطينيةالجزيرةxclude=الجزيرةt=*الجزيرةdegree_cat0=1الجزيرةpage=2
جدعان، فهمي. أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. عمَّان: دار الشروق، 1988م.
حوراني، ألبرت. الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939. ترجمة: كريم عزقول. بيروت: دار النهار للنشر، د ت.
عبدالرازق، علي. الإسلام وأصول الحكم. دراسة ووثائق: محمد عمارة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000.
العقاد، عباس محمود. الرحلة «كاف»: عبدالرحمن الكواكبي. القاهرة: المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، 1959م.
القاسم، أسعد وحيد. أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة. بيروت: الغدير، 1997م.
AnNa›im, Abdullah. Islam and secular state: negotiating the future of Islam. Harvard Press, 2008. Jandora, John W. Butrus al-Bustani, Arab consciousness, and Arabic revival. The Muslim World. (1984) 74 (2): 71-84.
- آن آربر - الولايات المتحة