تقديم
سردنا في الجزء الأول من هذا البحث الموجز وقائع أول معركة قضائية لنظرية «التصميم الذكي» ضد نظرية التطور الداروينية. واليوم في الجزء الثاني سنقدم موجزاً لبعض حالات اضطهاد أنصار «التصميم الذكي» في المؤسسات الأكاديمية الأمريكية كما وردت في فيلم وثائقي بعنوان «مطرود: الذكاء غير مسموح به».
تنويه واجب
ولابد من توضيح وتنويه هنا عن خلط المصطلحات بطريقة كيدية ووصف العلماء العلمانيين بالملاحدة بحسب العرف الجدلي لليمين الديني الأمريكي المتطرف حيث يستخدمون هناك ترادفاً كيدياً لمصطلحي علماني وملحد وهو خلط أصبح - للأسف - سائدا خاصة في المناظرات. وسوف ننقل هذا الخلط كما ورد في المصادر والمراجع التي استعملناها ليفهم ويحس القارئ بسياق هذه المعركة الفكرية العنيفة وقسوتها حتى في مصطلحاتها لتكتمل الفائدة والعبرة.
الدستور الأمريكي
وفي البداية أجد من المناسب أن نذكر القارئ مرة أخرى بنص التعديل الأول للدستور الأمريكي الذي ينص على أنه: «لا يشرع الكونغرس أي قانون يؤدّي إلى دعم ممارسة أي دين، أو تشريع أي قانون يؤدّي إلى منع ممارسة أي دين ؛ أو تشريع أي قانون يؤدّي إلى تعطيل حرية الكلام أو النشر الصحفي أو حق الناس في إقامة تجمعات سلمية أو إرسالهم عرائض إلى الحكومة تطالبها برفع الظلم». ونترك تفسير هذا النص الواضح للقارئ ونترك له حرية استنتاج وجود اضطهاد من عدمه في قضية أنصار نظرية «التصميم الذكي».
فيلم
«مطرود: الذكاء غير مسموح به»
فيلم «مطرود: الذكاء غير مسموح به» هو وثائقي من إنتاج عام 2008، مدته 97 دقيقة، ومن إخراج ناثان فرانكويسكي وتقديم المعلق السياسي الأمريكي بنيامين ستاين (بن ستاين) في دور الراوي والمحاور للضيوف. ومن المعروف أن بن ستاين محامي أمريكي من مواليد 1944 وينتمي لتيار المحافظين الجدد ويظهر دائما على قناة «فوكس نيوز» اليمينة المتطرفة كمعلق على الأحداث الداخلية والخارجية. واشتهر في البداية ككاتب لخطابات الرئيسين نيكسون وفورد. أصدر 28 كتابا منها 7 روايات. وهو من وضع فكرة وكتب سيناريو فيلم «مطرود: الذكاء غير مسموح به» الذي كانت ميزانيته3.5 مليون دولار وحصد في شباك التذاكر7.7 مليون دولار.
مزاعم الاضطهاد
يؤكد الفيلم أن المؤسسة العلمية الأكاديمية السائدة أي الجامعات ومراكز الأبحاث تقمع الأكاديميين المؤمنين بالله الذين يعتقدون أنهم يرون دليلا على «تصميم ذكي» في الطبيعة، والذين ينتقدون ويتحدون الأدلة التي تدعم نظرية التطور الداروينية، والتوليفة التطورية الحديثة ويعتبرونها مؤامرة من التيار الأكاديمي الإلحادي السائد لإبعاد من يؤمنون بالله عن المختبرات العلمية وقاعات الدراسة. أنصار «التصميم الذكي» يدعون في الفيلم بأنهم ضحايا لزملائهم علماء نظرية التطور خاصة والأكاديميا الأمريكية بصورة عامة الذين يتم وصفهم بالملحدين. الفيلم يتضمن مقابلات مع معلمين وعلماء يصفون هذا الاضطهاد. وفي الفيلم، يقول الراوي بن ستاين بثقة وبتعميم فج: «هذا الاضطهاد لا يأتي من قبل العلماء فقط، بل حتى من وسائل الإعلام، والمحاكم، والنظام التعليمي. نعم، الجميع يضطهدونهم!!!». وكذلك يتهم ستاين المؤسسات الأكاديمية السائدة بأنها تمارس التزام دوغمائي (عقائدي) بالداروينية، مثل تمسك الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي سابقا بالشيوعية.
شجب الفيلم
وشجبت الدكتوره يوجين سكوت من المركز الوطني (الأمريكي) لتعليم العلوم الفيلم بقوة قائلة: «إن منتجي هذا الفيلم يستغلون «شغف» الأميركيين بالعدالة كوسيلة لتسويق وجهات نظرهم الدينية» وأعربت عن قلقها لأن «هذا الفيلم يصور المجتمع الأكاديمي الأمريكي السائد كأنه ملحد ومتعصب وغير متسامح وضيق التفكير والأفق ويضطهد أولئك الذين يختلفون معه علميا، وهذا ببساطة خطأ فادح».
شخصيات
يُظهر الفيلم العديد من الناس المجهولين الذين تم إخفاء وجوههم حتى لا يتعرف عليهم أحد، والذين يقولون إن وظائفهم الأكاديمية ستتعرض للخطر إذا كشفوا عن إيمانهم ب «التصميم الذكي» علانية، وقال أحدهم: إن معظم العلماء «الملاحدة» يساوون بين التصميم الذكي وتيار اليمين الديني، والثيوقراطية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الفيلم يتضمن مقابلات مع علماء وغيرهم ممن يدعون إلى تدريس نظرية التطور وينتقدون التصميم الذكي على أساس أنه محاولة لإدخال الدين في الفصول الدراسية العلمية ومنهم الدكاتره: بي زي مايرز، وليام بروفين، ريتشارد دوكينز، مايكل روز، مايكل شيرمر، كريستوفر هيتشنز، ويوجين سكوت.
د. كروكر
يقدم الفيلم الدكتوره كارولين كروكر وهي محاضرة غير متفرغة سابقة في بيولوجيا الخلية في جامعة جورج ميسون والتي أصبحت مركز جدل لموقفها من التصميم الذكي. ويقول ستاين في الفيلم: «وبعد أن ذكرت كروكر مصطلح التصميم الذكي عرضا وبكل بساطة في إحدى محاضراتها في علم الأحياء في جامعة جورج ميسون، وصلت مهنة كارولين كروكر الأكاديمية المرموقة إلى نهاية مفاجئة»، وتم وضعها على القائمة السوداء في الأكاديميا الأمريكية. كروكر أخبرت ستاين أنه قبل وقوع تلك الحادثة كانت تعرض عليها بصورة روتينية دائمة وظائف على الفور بعد إرسال سيرتها الذاتية ثم عمل المقابلة الشخصية مباشرة، ولكن بعد ذلك الحادث لم تتمكن من العثور على منصب مناسب في الأوساط الأكاديمية. ويكشف ستاين أن كروكر عثرت بعد فصلها بالكاد على منصب متواضع في كلية المجتمع في شمال ولاية فرجينيا، حيث كتبت عنها صحيفة الواشنطن بوست مقالة نارية جاءت على شكل حوار معها زعمت فيه كروكر إن «المؤسسات الأكاديمية السائدة ترتكب الغش، وتخفي أفكارها الإلحادية في زي العلم، وتلاحق منتقدي نظرية التطور لتدمرهم». وفي منصبها الجديد، بحسب الواشنطن بوست، تُدرس كروكر في صف البيولوجي (علم الأحياء) بصراحة ادعاءات التكوينيين (أي أنصار قصة الخلق الواردة في سفر التكوين في الكتاب المقدس) عن نظرية التطور وتؤيد فيها التصميم الذكي، وتؤكد كروكر في محاضراتها حاليا أن فظائع النازية كانت مبنية على أفكار داروين أي البقاء للأصلح أو الأقوى.
د. روبرت ماركس
روبرت ماركس هو أستاذ في جامعة بايلور تم إيقاف موقعه البحثي على الإنترنت من قبل الجامعة، واضطر لإرجاع أموال المنحة البحثية عندما اكتشفت الجامعة أن عمله كان له صله «غير مباشره» بالتصميم الذكي. هذا البحث كان يبحث في نظرية التطور عبر معمل مشترك مع د. وليام دمبسكي وهو زميل في معهد ديسكفري المحافظ الذي يرعى نظرية التصميم الذكي وكان روبرت ماركس يستعمل خادم (سيرفر) الجامعة لاستضافة الموقع. الجامعة أزالت الموقع بعد تلقي شكاوى بأن الموقع «يبدو» (نكرر «يبدو») معتمدا من جامعة بايلور. مسؤولو جامعة بايلور سمحوا لاحقا لهذا الموقع مرة أخرى بالعمل على الخادم الخاص بهم ولكن طلبوا عمل تغييرات على الموقع بحيث «لا يبدو» أنه معتمدا من جامعة بايلور. ولكن د. روبرت ماركس رفض ذلك العرض ثم أعاد تأسيس الموقع على شبكة الإنترنت بشكل مستقل عن جامعة بايلور.
د. ستيرنبرغ
ويقدم الفيلم لقطات من مقابلة لستاين مع د. ريتشارد ستيرنبرغ وهو عالم أحياء تطوري ورئيس تحرير سابق لمجلة علمية مرتبطة بمعهد سميثسونيان الشهير بواشنطن. الفيلم يقول إن: حياة ستيرنبرغ «دمرت تقريبا» بعد أن نشر ورقة لمناصر التصميم الذكي د. ستيفن ماير في عام 2004، مما تسبب لفقده منصبه. لقد قدم ستيرنبرغ نفسه وماير كضحايا للاضطهاد الديني والسياسي، مدعيا أن رئيس قسمه كان يلقبه بأنه «إرهابي الذكاء». وذكر ستاين إن الورقة «أشعلت عاصفة من الجدل لمجرد أنه اقترح أن فكرة التصميم الذكي قد تكون قادرة على تفسير كيف بدأت الحياة»، ويدعي ستاين بجرأة أن ستيرنبرغ تعرض لنوع من «الإرهاب» بسبب عدم إيمانه بنظرية التطور الداروينية. ويدعي ستاين أيضا أن عضو الكونغرس مارك سودر قد كشف حملة تقوم بها مؤسسة سميثسونيان البحثية والمركز الوطني (الأمريكي) لتعليم العلوم لتدمير مصداقية ستيرنبرغ، ولكنه لا يقدم أي أدله تدعم ادعاءه.
د. غونزاليس
ويقابل ستاين د. غييرمو غونزاليس، عالم الفيزياء الفلكية الذي كان أستاذا مساعدا في قسم الفيزياء والفلك في جامعة ولاية آيوا. ويقول ستاين إنه بالرغم من سجل غونزاليس «الممتاز» الذي أدى إلى اكتشاف كواكب جديدة، فقد حُرم غونزاليس من التثبيت الأكاديميTenure بسبب كتابه «الكوكب المميز» الذي جادل فيه أن الكون تم تصميمه بواسطة ذكاء أعلى. غونزاليس يدعي أنه قبل مراجعة طلبه للتثبيت الأكاديمي، تعرض لحملة من الملحدين في الحرم الجامعي لتسميم الأجواء ضده، وأنه كان من المؤكد أنه سيحصل على التثبيت الأكاديمي لو لم يكن من دعاة التصميم الذكي. ستاين قابل عضوا في اللجنة التي رفضت منح غونزاليس التثبيت الأكاديمي الذي اعترف بوضوح وصراحة فجة أن غونزاليس حرم من التثبيت لأن «الجامعة تخشى أن يصبح اسمها مرتبطا بحركة التصميم الذكي».
وقبيل عرض الفيلم أصدرت جامعة ولاية أيوا بيانا رسميا حول قضية غونزاليس ورفض التثبيت الأكاديمي الذي طلبه حيث قالت فيه: «إنه بعد المراجعة العادية لمؤهلاته، مثل سجله من المنشورات العلمية (الذي انخفض بشكل حاد بعد أن انضم إلى هيئة التدريس)، لم يمنح غونزاليس التثبيت الأكاديمي والترقية على أساس أنه «ببساطة لم يظهر مسارا مستمرا للتميز الذي نتوقعه في مرشح يسعى للتثبيت الأكاديمي في الفيزياء وعلم الفلك» وهذا يناقض تماما اعتراف عضو اللجنة لبن ستاين الذي ذكرناه في الفقرة السابقة.
د. إيغنور
عندما قامت مجموعة من المواطنين في ولاية فرجينيا برعاية مسابقة لأفضل مقال لطلاب المدارس الثانوية حول موضوع «لماذا أريد طبيبي أن يدرس نظرية التطور»، رد د. مايكل إيغنور أستاذ جراحة المخ والأعصاب في جامعة ولاية نيويورك في ستوني بروك بنشر مقال على مدونة «التصميم الذكي» مؤكدا فيها أن نظرية التطور غير ذات صلة بمهنة الطب. ولكن مقالة د. إيغنور استقبلت باستهجان ونقد واسع من قبل الأطباء وأساتذة الجامعات والباحثين. ويقدم الفيلم مايكل إيغنور كمضطهد حقيقي بعد كتابته لذلك المقال على مدونة التصميم الذكي. إيغنور، وهو أحد المشاركين في حملات معهد ديسكفري لترويج التصميم الذكي ومنشق عن الداروينية يقدم نفسه في الفيلم على أنه ضحية لحملات شتائم وقذف من ملحدين على الإنترنت لإقناع جامعته بإجباره على التقاعد، طبعا بعد نشره تلك المقالة.
ويصف ستاين ذلك في الفيلم قائلا: «الأكاديميون الداروينيون سارعوا لإبادة هذا التهديد الجديد»، وقال د. إيغنور: إنه صدم بسبب «دناءة وخسة» الردود التي تلقاها. وفورا بعدما يقول إيغنور ذلك في الفيلم تقوم الكاميرا بعمل زوووم على صورة فوتوغرافية له مختومة بعنوان الفيلم «مطرود» مما يعني وجود محاولة لإبادة واغتيال د. إيغنور معنويا لأنه شارك في الجدل وناصر التصميم الذكي على الإنترنت.
انتهى البحث
الذي كتبناه نقلا عن موقع التصميم الذكي على النت، ومواقع «سي إن إن» و»بي بي سي» ومعهد ديسكفري ومجلة التاريخ الطبيعي الأمريكية التي تصدر عن متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك، ومشاهدة فيلم «مطرود: الذكاء غير مسموح به» عدة مرات، وصحيفة «يو إس توداي» وموقع «معهد ديسكفري» في سياتل على النت. وموقع «المركز الوطني لتعليم العلوم» والموسوعة الحرة ويكيبيديا على النت، وغيرها من المصادر والمراجع.
Hamad.aleisa@gmail.com
المغرب