(1) تقديم
كانت التجربة ماتعة، عندما استجبت لطلب الأستاذ القاص خالد اليوسف قبل أكثر من خمس سنوات، فكتبت مقاربة آنذاك عن جماليات القصة القصيرة جداً بعنوان:»جماليات المغامرة: قراءة في إشكاليات القصة القصيرة جداً». وقد بدا لي في حينها أن تلك المقاربة قد لاقت استحساناً ما من بعض متلقيها، وبخاصة من خلال عديد من إشارات الباحثين والدارسين إليها، وقد نشرت في المجلة الثقافية بجريدة الجزيرة مع ملف قصصي أعده اليوسف، يحوي قصصًا قصيرة جداً لقاصين سعوديين؛ حيث كانت تلك المقاربة في أجواء قصصهم...
فناقشت فيها عدداً من جماليات المغامرة السردية في القصة القصيرة جدًا؛ كاللغة السردية، والمجاز والتكثيف، والاحتفاء بالعادي والمألوف، والذات وإثارة الأسئلة، والمفارقة، والتجريب وعناصر السرد، وصدمة القارئ،... إلخ.
لكنني اليوم أجد قلمي متعثراً إلى درجة ما، بعد أن طلب مني القاص خالد اليوسف أن أكتب مرة أخرى في أجواء القصص القصيرة جداً، التي جمعها في ملف خاص، شارك فيه حوالي ستين قاصاً وقاصة، لهم أكثر من مئتين وخمسين قصة قصيرة جداً...
ولعلّ السبب المباشر في تعثري وقلقي تجاه مغامرة الكتابة مرة أخرى في هذا السياق - وربما عدم شعوري بمتعة القراءة - يكمن في ضرورة أن أتجاوز ما كتبته في القراءة السابقة من جهة، وأن أنظر إلى القاصين والقاصات بمنظور مختلف، خاصة بعد أن نشر بعضهم مجموعاتهم القصصية القصيرة جداً، وأيضاً دخل إلى حيز القصة القصيرة جداً عدد من القاصين والقاصات، ما يشير إلى أنّ هذا الملف فيه تنوع واضح وتفاوت في مستويات السرد أيضاً.
ليس بإمكان أية مقاربة نقدية أن تقول كل شيء عن هذه النصوص، أو أن تحلل النصوص كلها، أو تشير إلى الأسماء كلها، أو أن تحاول أن ترسم خصائص في الرؤى والجماليات لكل قاص وقاصة على حدة أو حتى مجتمعين...
فهذا أمر شبه مستحيل، وهو كتابة نقدية «غبية» على أية حال - إن جاز هذا التعبير القاسي - لأنّ قصة قصيرة جداً واحدة، تتكوّن - على سبيل المثال - من خمسة أسطر أو أقل، يمكن أن يعاد إنتاجها نقدياً في عشرين صفحة أو أكثر؛ كما يظهر في عديد من المقاربات النقدية المهمة لقصص قصيرة جداً بعينها.
بكل تأكيد، تعد الكتابة النقدية أو القراءة هنا مغامرة؛ لا تعرف كيف تبدؤها، وإلى أين سينتهي بك المطاف مغامراً، ومتعثراً، وغير مؤيد بقوى سحرية؛ كالحصان الذهبي، أو السيف الفضي المنتصر دوماً!! إذن، هي محاولة أو مغامرة للتفاعل مع بعض الأسماء والنصوص، ولا مناص من الحديث عن اللغة السردية، والتكثيف والمجاز، والعادي والمألوف، والمفارقة، والذات وإثارة الأسئلة، والمفارقة، والتجريب، وعناصر السرد، والصدمة، وغيرها.
ويبقى السؤال المهم: ماذا سننتج في هذا السياق التعجيزي؟! وهل هذا الإنتاج المتوقع سيريح الناقد أو المبدع أو المتلقي؟! أم أن قطع اليدين ربما يبدو أخف عبئاً من الكتابة عن حوالي ستين قاصاً وقاصة وأكثر من مئتين وخمسين قصة قصيرة جداً في عدد محدود من الصفحات؟!
(2) ما القصة القصيرة جداً؟
رغم سهولة الإجابة عن هذا السؤال؛ إلا أنّ مشروعية القصة القصيرة جداً ما زالت تكمن في مشروعية الاعتراف بها، وبخاصة عندما نجد استسهالاً للكتابة في مجالها؛ وكأنّ هذا الفن السردي مُلقى على قارعة الطريق، بلا ثمن أو أنه بأسعار بخسة جداً، ومن ثمّ فإن من حق فلان أو علان أن يصبح قاصاً، بمجرد أن يكتب خمسة أو عشرة نصوص، وينشرها في موقعه الرقمي أو غيره.
الرواية نص، والقصة القصيرة نص، والقصة القصيرة جداً نص، وكاتب الرواية سارد كما هو حال كاتب القصة القصيرة جداً.
إذن - وفي هذا السياق تحديداً - يبقى السؤال مطروحاً: ما القصة القصيرة جداً؟! إنه سؤال محوري، يحدد مفهوم هذه القصة، وجمالياتها، ومدى مشروعيتها، ومتى تتعرى من الجماليات الفنية، وإلى أي درجة يمكن أن تكون نزقة، غير قابلة للتعريف أو التصنيف، ومن ثمّ فهي نص سردي، وهي تعبر عن ذاتها بذاتها، لا من خلال معايير أو إسقاطات أو أحكام مسبقة نكوّنها عن هذا الفن أو غيره...
يمكن أن نعود إلى مراجع عديدة، فنحاول من خلالها أن نستنتج تعريفات عديدة ومعايير قلقة أو غير مستقرة، تحاول أن تعرّف القصة القصيرة جداً... لكن المنظور التنظيري عادة ما يفقد أهميته في سياق مشروعية هذه الكتابة التجريبية، سواء أكانت هذه الكتابة سردية أم شعرية أم درامية أم غيرها.
وإذا تصورنا في المستوى السردي نفسه أن هناك رواية، وقصة، وقصة قصيرة، وأقصوصة، وقصة قصيرة جداً...
فإن الحجم يبدو هو المعيار الحاسم في التمييز بين هذه الأنواع السردية، كما هو حال الوزن والقافية - من الناحية الشكلية - عند التفريق بين الأنواع الشعرية، ولسنا هنا معنيين بهذه التعريفات كلها.
الحجم عتبة أولى مهمة لتعريف القصة القصيرة جداً، وهذا ما دعانا إلى التأمل السريع في حجم هذا الفن من خلال مجموع القصص الذي تجاوز مئتين وخمسين قصة قصيرة جداً، في هذا الملف الذي أعده القاص اليوسف، وكانت النتيجة أن أقل حجم في متن القصة القصيرة جداً بلغ أربع كلمات (حوالي خمس ق.ق. جداً)، وأن أكبر حجم لهذه القصة بلغ حوالي 270 كلمة (قصة واحدة)، في حين تراوح حجم جل القصص بين 20 و60 كلمة.
ولعلي أزعم أنّ نص القصة القصيرة جداً المثالي ينبغي أن يكون في حدود خمسين كلمة.
ومن ثمّ فإنّ أي حجم هو مبرر ومشروع وغير قابل للمصادرة ما دام يقل عن ثلاثمئة كلمة في تصورنا غير المثالي للسقف الأعلى الذي يصل إليه حجم القصص القصيرة جداً.
ومع تحديد الحجم لا نزعم أيضاً بأن القصة القصيرة جداً قد أصبحت معرّفة تعريفاً جامعاً مانعاً، وإن كان الحجم ضرورياً في تعريفها أو تحديد مفهومها من الناحية الشكلية؛ لأن هذا الفن يحتاج إلى قيم جمالية وإنشائية أخرى، تفضي به إلى أن يكون قصة قصيرة جداً ذات مستويات محددة في عناصرها السردية أو في اللغة المكثفة المشحونة بالرؤى والدلالات المتشكلة في متنها، إضافة إلى سلامة اللغة والتراكيب؛ لأنّ هذه القصة لا تحتمل الترهل والركاكة والإنشائية المسطحة، واللغة الشعرية التجريدية، التي تفضي بهذه القصة إلى ثوب آخر هو قصيدة النثر، التي لها شروطها وجمالياتها، وهذا ما يفسر كتابة بعض القصص كأسطر شعرية مشابهة لقصيدة النثر، وهذا لا يضير - على أية حال - القصة القصيرة جداً؛ لأن كثيراً من نصوص قصيدة النثر يمكن أن يعدّ قصصًا قصيرة جداً، لو كتب بالطريقة السردية لا الشعرية، وهذا يجعل المساحة الفنية ليست شاسعة بين خطابي القصة القصيرة جداً وقصيدة النثر، إذا حافظ هذان الخطابان على حجم القصة القصيرة جداً- كما أسلفنا.
إذا اعتبرنا تعريف القصة القصيرة جداً حجماً من جهة، وشروطاً فنية من جهة أخرى؛ فإنّ الاحتراف في كتابة هذه القصة ينبغي أن يكون من ضمن التجربة المتكاملة للقاص؛ الذي ينبغي - إلى درجة ما - أن يكون على وعي تام بكون كتابة القصة القصيرة جداً أمراً ليس سهلاً، وأنّ القاص ينبغي أن يكون كشاعر قصيدة النثر الذي يكتب شعر التفعيلة والشعر العمودي؛ لذلك يكون كاتب القصة القصيرة جداً قاصاً في الأصل (يكتب القصة القصيرة) وربما روائياً أيضاً؛ حيث يصبح هناك معنى لكتابة القصة القصيرة جداً من خلال احترافية الكتابة، دون أن يكون في هذا الأمر تعميم ومصادرة لمشروعية الكتابة وكتابها... لكننا نلحظ أن كثيراً من المبرِّزين في هذا الفن القصير جداً، هم في الأساس قاصون وروائيون في الوقت نفسه، وفي الأقل هم قاصون من خلال وجود مساحة اختلاف محدودة بين خطابي القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً.
(3) سيميائية العناوين
يعد العنوان في أي خطاب إبداعي دلالة سيميائية محورية، خاصة إذا نظرنا إلى كثير من الدراسات النقدية التي اتخذت العناوين مجالاً للدراسة، بصفتها عتبات تشير إلى بعض السيميائيات والدلالات المفضية إلى تكوين قيم جمالية في حجم العنوان ومجاله ودلالاته الظاهرية والعميقة، من خلال كونه المفتاح الرئيس أو أحد المفاتيح الرئيسة لاكتشاف النص أو الخطاب وتفسير محمولاته الفنية والدلالية.
من جهة الحجم، بدت عناوين القصص القصيرة جداً محققة لشروط حجم العنوان في الاقتصار على كلمة واحدة، حيث تجاوزت العناوين ذات الكلمة الواحدة مئتي عنوان، وذات الكلمتين أربعين عنواناً، وذات ثلاث الكلمات ستة عناوين، وذات أربع الكلمات عنواناً واحداً فقط.
وهذا الأمر يشير إلى أن القصة القصيرة جداً لا تحتمل أكثر من كلمة واحدة؛ لأن المتن محدود الكلمات، ومن ثمّ فإن العنوان ينبغي أن يكون ومضة دلالية، والدلالة عادة تنطلق من كلمة، كما ينطلق المعنى من الجملة، والفكرة من نص القصة القصيرة جداً.
وكان واضحاً في جلّ القصص -إن لم يكن في كلها- أن العنوان هو بؤرة المتن حضوراً أو غياباً، وهذا يشير إلى أن حجم القصة القصيرة جداً لا بدّ أن يفضي إلى إفراز هذا العنوان أو إنتاجه، بصفته خلاصة القصة أو زبدتها أو القلب الذي تنبض من خلالها، أو أية دلالة أخرى مشابهة.
وعندما نتأمل جيداً في دلالات العناوين وحقولها؛ فإننا نجدها - في العموم - قد جاءت من حقول عديدة، يمكن تلخيص أهمها في الآتي:
1- حقل الإنسان: علي، إنسان، حورية، بنت الجيران، الأعرج، المسؤول، فتاة، أنا، الأعمى، مواطنة، جميلة، فرحان، صديق، رجل، مجنون، سيد، السجين، دخيل، ناقصة دين، سندريلا، أحفاد، أنثى، لص، امرأة، النساء، الشيخ، الجندي، الطاووس، مجرم، طفولة، إلخ.
2- حقل المشاعر: أمل، ثائر، رثاء، أهازيج، أمنية، ضياع، حلم، غناء، عطاء، حيرة، تردد، دهشة، سعادة، الغرور، بؤس، دندنة، كابوس، إنسانية، توق، وحدة، أفراح، الدوار، ندم، صرخة، قمة التخيل، تشاؤم، حسد، إحباط، مكابدة، التعب، الهوى، نرجسي، جنون، غرور، خيبة،... إلخ.
3- حقل الممارسات أو التصرفات: إبطاء، عجالة، شبق، محاكمة، إدمان، مداهمة، تسول، الصلاة، قرار، انتظار، سقوط، انشقاق، خيانة، تقبيل، شنق، سقوط، سباق، استلاب، إذلال، وأد، انتهاك، هبوط، تزمت، ...إلخ.
4- حقل الظواهر والأشياء: برق، شيء، قناع، ورقة رسمية، مهنة، أرصفة، سجون، ورق، مانجو، الشام، الكعب العالي، أمن، الأرض، زمن، مشرط، قفص، موت، جوع، خط أحمر، نافذة، دين، ميلاد، الأرجيلة، أرجوحة، وسادة مثقوبة، كرة، أحمر شفاه، ميزان، طفولة، الوردة، سمكة زينة، أغنية، علكة، بؤساء، فصول، سقف، رصاص، رقابة، جنازة، انفجار، انكسار، دوي، اتجاه، أزمة، لغة، سكر، ظلام، الجنة، حدود، لوحة، المدرج، شتاء، درج، باب، نخلة، بقشيش، احتضار، الياسمين، حمى، غابة، صرير باب، لمعان، المؤشر، حجارة، ظل، ولادة، ...إلخ.
بكل تأكيد، هذه مؤشرات إلى نوعية العناوين في تصنيفاتها العامة، دون أن يلغي هذا التصنيف وجود تداخل بين هذه الأقسام أو الحقول الأربعة.
لكن المهم في هذه العناوين وغيرها أنها جاءت من حقول مألوفة، وهي تحمل دلالات عميقة عند التأمل فيها من جهة الإيحاءات الواسعة التي تفضي إليها هذه الكلمات في مستوى علاقتها بالثقافة والوعي المتشكلين داخل المتلقي، الذي لا بدّ أنه سينظر إلى هذه العناوين في دلالاتها المجازية لا الحقيقية أو الواقعية؛ فعندما تتأمل كلمة « نخلة» مجازياً سندرك تحولاتها المجازية والدلالية قبل أن تنظر إليها بصفتها نخلة عادية تعيش في الواحات وتنتج ثمراً؛ لأن النخلة يمكن أن تكون امرأة أو مدينة أو تراثاً أو اقتصاداً أو ما إلى ذلك، وهذا التحول الذي تكتسبه العناوين مجازياً ودلالياً هو الأهم من غيره عند تحليلها أو ترميزها في سياق الإيحاء والرمز.
(4) أسماء في حيز ال ق.ق. جداً
لعلّ النظرة المتأنية إلى تشكيلة الأسماء المشاركة في هذا الملف القصصي تفضي إلى غلبة القاصين على القاصات، حيث لم يتجاوز عدد القاصات إحدى عشرة قاصة، من بين سبعة وخمسين قاصاً وقاصة؛ أي أنهن يمثلن أقل من عشرين بالمئة من مجموع القاصين والقاصات، وهذا له دلالة إشكالية، ربما تفيد بأن القصة القصيرة جداً تعد كتابة ذكورية بالدرجة الأولى؛ أي - في الأقل- من خلال هذا الملف أو هذه الأنطولوجيا في القصة القصيرة جداً.
والنظرة الأخرى التي يمكن أن نستنتجها؛ هي وجود تنوع في مستويات القاصين والقاصات، حيث نجد قاصين لهم باعهم الطويل في كتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، نذكر منهم على سبيل المثال: جارالله الحميد، وجبير المليحان، وخالد اليوسف، وشريفة الشملان، وعبد الحفيظ الشمري، وعبد العزيز الصقعبي، وفهد المصبح، ومحمد الشقحاء، وغيرهم.
وهناك أيضاً أسماء أخرى، ربما هذه المرة الأولى التي أقرأ لهم فيها قصصاً قصيرة جدًا، وهي أسماء كثيرة، ربما يكون هذا عيباً فيّ، لكنني أعتقد أنّ قراءتي لمجمل القصص لن يؤثر فيها كون القاص معروفاً أو غير معروف؛ لأن النص هو الذي يعرّف صاحبه، فالأخطاء اللغوية على سبيل المثال لا تفرق بين قاص محترف وآخر ما زال يحبو في مجال الكتابة الإبداعية، إذا غفل أحدهم عن مراعاتها.
ومع ذلك كان في القصص ما يؤكد احترافية الكتابة لدى مجموعة من القاصين، وهناك قصص أخرى تدل دلالة مباشرة على أنها في مستوى فني متواضع جداً، ومن ثمّ ليس لها من فن القصة القصيرة جداً إلا بعض المظاهر السردية الشكلية.
وليست وظيفة القارئ أو الناقد هنا أن يصنف القصص تصنيفاً معياريًا بحسب الجودة والرداءة وما بينهما أو غير ذلك، ولكن من المهم أن نفهم جيداً بأن كتابة القصة القصيرة جداً تخدع كاتبها؛ فهي لا تحتاج في ظاهرها إلى كثير من العناء والتعب والاشتغال على الذات، وهذا هو الفهم الخاطئ الذي حفّز كثيراً من الكتاب والكاتبات نحو كتابة القصة القصيرة جداً، وأيضاً قصيدة النثر التي تشبه القصة القصيرة جداً، اعتقاداً منهم أن الكتابة في هذا المجال إشكالية تجريبية من جهة، وسهلة من وجهة نظرهم من جهة أخرى، وبالنسبة إلينا كمتلقين فإن العبرة في المحصلة هي أن يكون القاص ناشراً لقصصه في مدونته الرقمية أو موقعه التواصلي الاجتماعي؛ لقراءتها والتعرف إليها كتجربة سردية جديدة محتفى بها أو أنها عادية لا تستحق الاحتفاء بها.
بل في الحقيقة أن كثيراً من التغريدات في «التويتر»، و»الفيسبوك»، والمنتديات الرقمية المختلفة، وغيرها، قد يعدها أصحابها من باب القصة القصيرة جداً؛ لذلك كثر كتاب هذا الفن، الذي يفترض بنا أن نضع كثيراً من العوائق والمطبات أمام مغامرة الكتابة في مجاله.
لا يقصد من وراء أسماء في حيز القصة القصيرة جداً أن نحبط بعض القاصين والقاصات، وأن ندعوهم إلى الإقلاع عن كتابة القصة القصيرة جداً، أو حتى التفكير كثيراً قبل كتابتها؛ لأن ما قصدته أن هذا الفن ما زال في بدايات التنظير له فنياً وجمالياً، وأن الحديث عن الكتابة السردية في ضوء القصة القصيرة جداً ما زال يدور حوله كثير من التحفظات والمحاذير؛ إذ كيف نسمح لأنفسنا أن نكتب القصة القصيرة جداً دون أن نكتب قبل ذلك القصة والقصة القصيرة وربما الرواية، لأن هذه الممارسة ضرورية جداً قبل أن نمارس كتابة هذا الخطاب الأكثر حداثة من غيره في تصورنا، ومن ثمّ فإنّ الإقلال في مجال هذه الكتابة ميزة يمتاز بها القاصون المقلون، الذين يحرصون على أن تكون قصصهم القصيرة جداً تتصف بجماليات نوعية، مع الحدّ من الكم في ذلك ؟! هنا لا بدّ أن ننظر إلى القصة القصيرة جداً في المستوى النقدي بصفتها خطاباً ليس عظيماً أو مهماً، ما دام هناك كثير من كتابها، لم يراعوا ضرورة الإقلال من هذه الكتابة القصيرة جداً؛ حتى لا تتهم كتابتهم هذه بأنها مجرد خواطر وتغريدات لا علاقة لها بالسرد أو بالشعر أو بغيرهما في مجال الإبداع أو الكتابة الإبداعية! والسؤال الذي يفرض نفسه - إذن - ما مساحة الكتابة وحجمها في هذا المجال؟! تتلخص الإجابة في أنه ينبغي ألا يتجاوز عدد القصص القصيرة جداً مئة قصة للقاص الواحد؛ أي في حدود مجموعتين في الأكثر، وألا يزيد حجم القصة على سبعين أو ثمانين كلمة؛ حتى لا تتحول القصة القصيرة جداً إلى قصة قصيرة أو أقصوصة.
(5) في الفن والجماليات
لا شك في كون القصة القصيرة جداً فنًا سرديًا، يمتلك جمالياته الخاصة، من خلال عدد من العناصر، بدءاً من الحجم الضيق أو الصغير كما أسلفنا، مروراً باللغة الشعرية، المكثفة، الدقيقة، الدالة، التي لا تقبل أي حشو أو ترهل، وانتهاءً بجملة القفلة (الخاتمة)، التي تفضي إلى التأويل والمفارقة في متن هذه القصة.
ثم يبقى الإيحاء والتكثيف وما ينتج عن ذلك من: ترميز، ومفارقات، وتلميح، واقتضاب، وحذف، وتوتُّر، وانزياح، وشعرية... أهم سمات هذه الكتابة السردية.
وفي الوقت نفسه، لا بدّ أن يكون هناك حرص على أن تكون البنية سردية أو حكائية، وأن تكون عناصر القص متنوعة، كما ينبغي أن تحضر هذه العناصر -بطريقة أو بأخرى- أكثر من غيرها في هذه الكتابة، لأنه لا يمكن استبعاد عناصر الشخصية، والحدث، والزمكانية، والحكاية، والراوي، والبداية والنهاية، واللغة السردية، وغيرها، عن القصة القصيرة جداً.
أما المضمون فهو إيحاء واختزال وعلاقات نفسية وانفعالية، لا إخبار في ذلك، ولا إسهاب أو تفصيل؛ وعلينا أن ندرك أن الرمزية والتكثيف هي أهم العناصر التي تجعل المضمون أكبر بكثير من حجم الكلمات، حيث وجدنا أن بعض القصص القصيرة جداً كان في حدود أربع كلمات، وقد يصل إلى أقل من ذلك.
وفي هذا السياق - تحديداً - تصبح كتابة القصة القصيرة جداً صعبة وعصية، وأن استسهالها سيفضي في المحصلة إلى العبثية السردية، عندما يتحول هذا الخطاب إلى ممارسة فجة أو سطحية.
والقصة القصيرة من جهة اللغة - أيضاً - هي تناص عميق مع نصوص الحكمة، والمثل، والنكتة، واللغة الجامعة، والنزعة البلاغية المحصنة ضد أي فوضى لغوية، يمكن أن تُحذف منها كلمات وجمل!! كيف نكتب قصة قصيرة جداً في تشكيل جمالي مقنن أو معياري؟ ربما نجد صعوبة في الحديث عن ذلك؛ لأن معايير جماليات هذا الفن تتعمق من خلال التكثيف أولاً وأخيراً، والتكثيف هو خلاصة الجماليات؛ سواء أكان في اللغة، أم المضمون، أم العناصر الفنية، أم الاستجابة لذهنية التلقي المتذوقة أو الواعية لهذه الجماليات!! ولا يمكن أن تكون اللغة التقريرية أو السطحية أو الإنشائية أو السردية العادية لغة قصة قصيرة جداً.
فالمتلقي الواعي يدرك جيداً أن القصة القصيرة جداً ذات لغة مكثفة، تمتلك الصدمة، وتولد الانفعال والدهشة واللذة والتشبع بشاعرية التوتر الناتجة عن الرؤى والدلالات والموسيقى أيضاً، ومن حقنا أن نعيد ونكرر ذلك أكثر من مئة مرة في مقالة واحدة.
نُذكِّر دوماً بأن كتابة القصة القصيرة مغامرة إبداعية غير قابلة للتشكّل النهائي، ولكن هذه المغامرة لا بدّ أن تكون محسومة في كونها مغامرة عصية على الاستسهال، الذي هو أسوأ عوامل تقويض هذه الكتابة وتهميشها في الثقافة والإبداع معاً.
ونعْتدّ كثيراً بكون القصة القصيرة جداً تحتفي بالمفارقة، التي تقوم على تناقض المعنى المباشر والمعنى الآخر التأويلي المقصود؛ حيث تعبر القصة هنا عن أكثر مما تريد أن تقوله الكلمات مباشرة، أو كما يعرف في البلاغة العربية - على سبيل الشهرة - أن يكون المدح في باطنه ذماً، وأن يكون الذم في باطنه مدحاً، وهذه المفارقة هي أهم أسس الصدمة أو الإدهاش، وهما يتشكلان عفوياً من خلال القصة القصيرة جداً بالنسبة إلى المبدع والمتلقي معاً، وهي أيضاً المسؤولة عن تهميش السطحية والمباشرة في هذه الكتابة لمصلحة تعميق التناقضات والثنائيات في السرد.
ويضاف إلى المفارقة إشكالية السخرية التي تتولد من هذه المفارقة أيضاً، إذ يستخدم القاص كثيراً من العناصر التي تكشف عن دراما السخرية، التي تصل أحياناً إلى أن تكون سخرية سوداء، على طريقة «شرّ البلية ما يضحك»!! وعنصر السخرية - بكل أشكاله وإيحاءاته - هو أحد العناصر الرئيسة المكونة للقصة القصيرة جداً؛ إذ يلجأ إليها القاص كي يُولِّد في نصه الإدهاش والإعجاب لدى المتلقين، وهو - في الوقت نفسه -يدرك أنّ ما تنتجه السخرية من معانٍ ورؤى وجماليات في الكتابة عموماً، وفي القصة القصيرة جداً على وجه الخصوص..
يعد من مستلزمات الكتابة المتجددة، في مواجهة عالم متضخم بالماديات والتوحش على حساب روحانية الإنسان وإنسانيته!! ولغة السخرية في الواقع العادي والمألوف، وكذلك لغة القصة القصيرة جداً المندمجة مع هذا الواقع، لا تحتاجان (هاتان اللغتان) معاً إلى أن تكونا لغة جزلة ومعجمية وشريفة ونخبوية، إلخ، بل هي لغة عادية مألوفة، تستطيع أن تصل إلى المتلقي بسهولة ويسر، وبخاصة أنها تعبر عن نثريات الحياة اليومية أو المعيشية، ولكنها كلغة الفكاهة والنكتة، تشعرك أنها قريبة من وجدان المتلقي ولغته في حياته العادية المسكونة بالعثرات والأزمات والاغتراب، وفي الوقت نفسه ترتفع من خلال المفارقة دلالياً وإدهاشاً؛ لتغدو واقعاً رمزياً مكتوباً في كلمات محدودة، تفتح المجال واسعاً للتحليل والتأويل والكشف عن دلالات الغياب في اللغة قبل دلالات الحضور فيها.
وعدا عن ذلك، يعد التناص من سمات القصة القصيرة جداً، سواء أكان من خلال التناص مع الشعرية من جهة، أو من خلال استثمار نصوص أخرى ومعارف معيشية عديدة في المتن السردي، يضاف إلى ذلك ضرورة الحرص على البعد الدرامي، من خلال الاحتفاء بمفارقات العادي والمألوف واللغة التداولية... كما أسلفنا.
وللترقيم أيضاً دور فاعل ووظائف محددة في تشكيل بنية القصة القصيرة جداً؛إذ بإمكان علامات الترقيم أن تدخل إلى السرد بصفتها دلالات وإيحاءات، ربما لا تصل إليها اللغة التعبيرية، بدون هذه العلامات الدالة المولدة من الانفعالات النفسية والفكرية والاجتماعية المهيمنة على السرد.
ما نستحضره في مستوى الفن والجماليات في سياق مقاربة الرواية أو القصة القصيرة أو السيرة الذاتية أو غيرها هو نفسه ما ينبغي أن نستحضره عند مقاربة قصة قصيرة جداً، تتكون من عدد محدود من الكلمات، وهذا ما يفسر تضخم حجم النقد أو القراءة في مواجهة نص محدود المساحة جداً؛ هو القصة القصيرة جداً.
ولو افترضنا أنّ لدينا عشرين أو ثلاثين عنصراً جمالياً لمقاربة الرواية؛ فإنّ هذه العناصر نفسها يمكن أن نقارب من خلالها القصة القصيرة جداً؛ لأنّ علم السرديات، لا يميز بن الأنواع السردية من منظور حجمها أو تعريفها ومفاهيمها، وإنما يميز بين مساحة العناصر الفنية أو الجمالية حضوراً وغياباً ومشروعاً للتحليل أو المقاربة أيضاً في خطاب دون آخر.
(6) من التنظير إلى التطبيق
لم نهمل التطبيق والتداخل مع البنيات السردية في الفقرات السابقة، ولكننا غلَّبنا الظواهر والإشكاليات النظرية في كتابة القصة القصيرة جداً على الجانب التطبيقي، وقد آن الأوان أن نتداخل مع بعض القصص القصيرة جداً في المنظورين العام والخاص، مستندين في ذلك إلى بعض الأسس والمفاهيم النقدية، وهي:
أ- إشكالية المتن السردي.
ب- شعرية الواقع.
ت- جدلية اللغة والأسلوب.
ث- الذات والمنظور.
(7) إشكالية المتن السردي
توجد تعددية تشكيلية في المتن السردي، من جهة الشكل أو المظهر الفني، وقد أشرنا - سابقاً - إلى أنّ القصة القصيرة جداً ينبغي أن تكتب بحسب الكتابة السردية، التي لا تتجاوز فقرة واحدة، فيها بعض سطر أو عدة أسطر.
ولكن توجد قصص قصيرة جداً استخدمت أسلوب السطر الشعري في القصيدة الحديثة، فتعددت الفقرات أو الأسطر غير المترابطة عموماً في مستوى طريقة الكتابة السردية، وكأنّ القصة القصيرة جداً غدت بنية شعرية، وهذا لا يمنع أن يعدّ من باب كتابة القصة القصيرة جداً بصفتها خطاباً سردياً يتناص مع الشعر الحديث.
نجد ذلك في قصص: أحمد عسيري، وأمل مطير، وجمعان الكرت، وحسن البطران، وحسن الشيخ، وشيمة الشمري، وطاهر الزارعي، وطاهر الزهراني، وعبد الرحمن العمراني، وفهد الخليوي، ومحمد المزيني، وناصر الحسن، وناصر العديلي، وهدى النامي، وغيرهم.
قد يوحي هذا البناء بوساطة أسلوب الشعر بشاعرية أكبر في ذهنية المتلقي المتعود على البنية الشعرية، لا البنية السردية، ولكنه - في المحصلة - يبدو بناء على حساب الكتابة السردية، التي تعتمد على الفصل والوصل من جهة، وأيضاً الكلام المتجاور بعضه ببعض من جهة أخرى.
وكما ذكرنا قد تفقد هذه الطريقة القصصية القصيرة جداً ميزة الترابط؛ إذ غالباً ما تفتقد الشعرية لهذا الترابط السردي؛ وحينئذ تغدو القصة القصيرة جملاً متناثرة، قد تحتاج إلى بعض العناء لدى المتلقي لإيجاد الترابط بينها، من خلال استخدام أدوات ربط ذهنية، وأحياناً كثيرة لا يحتمل المعنى السردي تلك الحالة الناشئة عن صفّ الجمل المترابطة صفاً شعرياً.
يمكن أن نعذر القاص في ذلك إذا كانت القصة حوارية (قائمة على الحوار)، أو مجموعة من الرؤى المتضادة.
والمهم هنا أن نظام الكتابة الشعرية الحديثة ليس له أو لغيره «قدسية لغوية»، تجعله أشرف من الكتابة السردية.
وإن كان هناك مبرر ما لاستعارة القصة القصيرة جداً لثوب القصيدة؛ لوجود علاقة حميمة بين قصيدة النثر والقصة القصيرة جداً؛ إذ نجد تلك الشعرية العالية في هذه القصة التي تكتب على الطريقة الشعرية؛ كما نلاحظ ذلك في قصص محمد المزيني - على سبيل المثال.
الملحوظة الأخرى البارزة في سياق المتن السردي، تكمن في تضخم حجم القصة القصيرة جداً أو تقطيعها إلى عدة مشاهد (أوصال)؛ حيث يبدو الأمر هنا إشكالياً، وبالذات في القصة القصيرة جداً الوصفية؛ لأن الوصف يصاحب الرواية والقصة القصيرة وسائر البنيات السردية، ويقل في القصة القصيرة جدًا.
من هنا يمكن أن نتحاور في مشروعية حجم المتن من جهة، ومدى التزامه ببناء القصة القصيرة جداً، ذات الحجم المحدود جداً -كما أسلفنا- من جهة أخرى.
وهنا نشير إلى بعض قصص أحمد القاضي، وجارالله الحميد، وحسن حجاب الحازمي، وصالح السهيمي، وظافر الجبيري، وعبد الله التعزي، وفارس الهمزاني، وفاضل عمران، وفاطمة الرومي، وغيرهم.
تبدو القصص في هذا السياق أقل تماسكاً وتكثيفاً.
وفي المقابل لا بدّ أن نتحاور أيضاً عن مدى مشروعية أن تكون القصة القصيرة جداً بضع كلمات، ربما لا تفضي إلى بنية سردية، أو أنها غدت كتابة نمطية، ينبغي أن يتخلص القاص منها، وأن يتجاوز البنية الخواطرية الشعرية إلى البنية السردية، وأعطي مثالاً على ذلك قصص نجاة خيري، وبعض القصص المشابهة لها.
لكن في العموم بدت القصص متوازنة لا تميل إلى الإسهاب أو تختزل في جملة أو جملتين على حساب السردية، أهم سمات القصة القصيرة جداً.
(8) شعرية الواقع
يعد متن القصة القصيرة جداً - في عمومه - منتمياً إلى الواقع المعيشي اليومي.
والنص هنا لا يعكس الواقع بقدر كونه موازياً له، يقدمه من خلال التقاط لحظة تنوير معينة؛ تسهم في اقتناص الأفكار التي تغني السرد؛ حيث الواقع يمكن أن يكون أكثر ثراء من التخييل المنفصل عن أي واقع، ومع ذلك يضطلع النص السردي هنا بجماليات الواقع، بما فيها جماليات القبح؛ حيث ينقسم الواقع إلى عالمين متلاحمين، هما الخير والشر، وثنائيات متضادة كثيرة، تسهم في إثراء النص من خلال شعرية الواقع أو جمالياته، كما يتجلى ذلك بإيجاز شديد في القصص القصيرة جداً، ومن ذلك - على سبيل المثال - أن تحتفي القصص النسوية القصيرة جداً بالعلاقة بين الرجل المرأة؛ فيصبح الرجل محط سهام هذه الكتابة؛ ليس لأنه ذكر وهي أنثى؛ ولكن من منظور كونه سلطة مهيمنة وقمعية في المجتمع.
تعبر القصص القصيرة جداً موضوع هذه المقاربة، عن كثير من الجوانب السيئة في الذات والمجتمع والعالم، وغالباً ما تشعرنا بأنها تتكئ على الإحباط والفشل والصدمة والموت.
ولو استعرضنا بعض المضامين في قصص الذكور، تاركين قصص النساء إلى مناقشتها في سياق» الذات والمنظور»؛ فإننا سنجد من بين المضامين العريضة التي تناولها القاصون: فشل الحب، وضياع الأمل، والغربة، والتشاؤم، والأعباء المثقلة بالأحزان، والمرأة، والخيانة، والغربة والتشرد، والخوف، والموت، والجنون والعبث، والطفولة، والشيخوخة، والسياسة، والفقر، والنفاق، والغرور، والسلطة، والفساد، والعادات والتقاليد، والانتحار، والذات، والمجتمع...
ويكون التعبير عن هذه المعاني والأفكار - عموماً - من خلال الرمزية الشفافة، والإيحاء ذي الدلالات العميقة، والمفارقة الصادمة، واختزان عدد كبير من الآلام والأحزان، التي تجعل القصة القصيرة جداً ذات موسيقى داخلية شعرية نسقية أو نمطية، تؤكد إيقاعاً وحيداً، يكمن في المعاناة المطلقة في البنية السردية!! إن القصة القصيرة جدًا هي ابنة زمكانيتها؛ أي واقعها الذي تنهل منه، وهو واقع مأزوم في كل أحواله؛ لذلك تجيء التجربة السردية لدى القاصين والقاصات مسكونة بهذا الواقع، محاولة منهم لتعرية هذا الواقع، والكشف بأساليب جمالية ذكية عما يكتنفه من شرور وآثام، وهذا الأمر يغدو أكثر جمالية وفعالية عندما يكون القاص ممتلكاً لأدواته الفنية، قادراً على أن يرسم واقعه بكلمات محدودة مكثفة، توازي هذا الواقع، وتعبر عنه تعبيراً جمالياً؛ يوصل المعنى الفلسفي، ويحقق الأثر العميق في المتلقين.
أما القاص/القاصة الذي يتهجى الفن والجماليات السردية الخاصة بالقصة القصيرة جداً؛ فأظن أن الطريق أمامه أو أمامها طويلة؛ كي يكتسب مكانته الحقيقية في السرد الحقيقي؛ دون أن نصادر مشروعية الكتابة في هذا الجانب ا لأدبي أو في غيره!!
(9) جدلية اللغة والأسلوب
لو أردنا أن نتتبع القصص القصيرة جداً، في سياقها اللغوي السليم أو ما يعتريها من أخطاء، وفي أسلوبها المكثف وما يعتريها من ترهل أحياناً، فهذا موضوع إشكالي، وفيه نوع من المعيارية والوصاية التي لا يرتضيها المبدع لنصّه؛ إذا كانت الأحكام جزافية تقليدية، كما لا يرتضيها الناقد أو القار ئ إذا أراد ألا يكون مصادراً لثقافة الآخرين ووعيهم وإبداعهم.
ومع ذلك لا بدّ أن يعتني القاص بنصه الإبداعي، وأن يخلصه من الأخطاء اللغوية العادية التي تعتريه وتسيء إليه.
وأحياناً لا يتجاوز الأمر أن يعرض هذا الملف أو غيره على مختصين في اللغة؛ ليدققوه ويخلصوه من الشوائب، وبخاصة إذا كانت اللغة المكتوبة من إنتاج مبدع غير متخصص باللغة العربية، أو إمكانياته فيها محدودة.
أما مسألة أسلوب القصة القصيرة جداً، ومدى درجة الحذف المخل في بنيتها، كما هو الإسهاب المخل بهذه البنية، وما ينتج عن ذلك من حشو أو حذف، لا يحسن وجوده في متن هذه القصة... فهذا أمر يطول شرحه.
حتى القاص نفسه لو قرأ قصصه في زمكانيات متنوعة؛ فإنه لابدّ أن يغير ويبدل في نصه، ولا بدّ أن يجد بعض العيوب، فيحاول أن يتخلص منها أو الاستفسار عن الطريقة المثلى في الكتابة والإبداع في المستويين اللغوي والأسلوبي.
وقد لاحظنا مؤخراً في المنتديات والمواقع الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي وجود حالة تفاعلية بين المبدع ومتلقي نصوصه، وفي أحيان كثيرة يطلب المتلقون من الكاتب إجراء بعض التغييرات في النص، ويشاركونه بعض همومه الإبداعية؛ فتتحسن لغة النص وأسلوبيته، وهذه تعد أهم ميزة في النصوص الرقمية التفاعلية، التي تُشرك المتلقين مع المبدع في إعادة صياغة النص وتطويره نحو الأفضل، بحيث يسهم ذلك في تنبيه الكاتب إلى أشياء قد تبدو هامشية وهي مهمة، وما كان بإمكانها أن تخطر على بال الكاتب من غير ملحوظات قرائه أو متلقيه.
بإمكاني أن أؤكد بأن كثيراً من القصص القصيرة جداً، التي أعدت في هذا الملف، يعتريها بعض الأخطاء والهنات اللغوية، كذلك يعتريها أخطاء أسلوبية، أفضت بها إلى شيء من اللغة الفضفاضة، ولا يحتاج الأمر هنا إلى تمثيل أو إشارة إلى قصص بعينها؛ لأن هذا الأمر يحتاج إلى دراسة مستفيضة لا تتحملها هذه الوريقات التي ستنشر في جريدة أو ملحق ثقافي أو مجلة ملحقة بجريدة.
العلاقة بين المبدع ولغته وأساليبها علاقة ينبغي أن تكون حميمة وجدلية؛ لأنّ اللغة هي أداة التوصيل، وهي القابلة للتفجير الجمالي عندما تكون لغة في النصوص الإبداعية.
من هنا غدت القصة القصيرة جداً من الناحية التجنيسية تميل إلى اللغة الشعرية، وفي الوقت نفسه تحافظ على سرديتها، ومن ثمّ تحقق لنفسها جماليات عليا وهي تتداخل مع أجناس وأنواع أدبية وفنية عديدة، وفي الوقت نفسه تنهل من اللغة الدارجة والمألوفة؛ فتعيد تشكيلها في مستويات المفارقة والسخرية والدلالة والإيحاء والمجاز... وحينئذ سنرى الفرق كبيراً بين عالمين متوازيين، يتحددان في التخييل والواقع، بصفة التخييل عالماً جمالياً موازياً للواقع وليس انعكاساً له... وكل ذلك في لغة مجازية مكثفة!!
(10) الذات والمنظور
ذكرنا سابقاً أن نسبة القاصات إلى القاصين لا تتجاوز عشرين بالمئة، وهذا يعني من الناحية المبدئية أنّ الذات الذكورية هي المهيمنة، ومن ثمّ يغلب المنظور الذكوري على المنظور النسوي، على الرغم من كون المرأة تعد من أهم شخصيات القصص القصيرة جداً، سواء أكان النص لذات أنثوية أو ذات ذكورية.
وهنا نتساءل - على سبيل المثال- عن ذات المرأة الساردة ومنظورها: هل هو منظور نسوي مثلاً ؟ نعم، لقد انغمست كتابة المرأة في ذاتها النسوية؛ فعبر منظورها عن كونها تعاني من الرجل، الذي جاءت صورته في قصصهن مشبعة بسمات القبح بسبب عمله على اضطهاد المرأة، ونادراً ما كانت هناك صورة إيجابية للرجل.
لقد عبرت إحدى عشرة قاصة، هن: أمل مطير، وأميرة القفاري، وحكيمة الحربي، وشريفة الشملان، وشيمة الشمري، وفاطمة الرومي، ومسعدة اليامي، ومنيرة الأزيمع، ونجاة خيري، ونورة شرواني، وهدى النامي؛ في خمس وخمسين قصة قصيرة جداً عن صور الرجل القبيحة (كتبن حوالي 60 ق.ق.جداً)، وهذا يؤكد وجود منظور نسوي، يتسلح بإيديولوجيا نسوية، تسعى إلى تقوض سلطة الرجل وهزِّ كيانه، في مقابل تجلية معاناة المرأة من خلال علاقتها غير المتوازنة به.
يمكن أن نجمل صور هذا الرجل وتشكلاته كعناوين رئيسة استخلصت من مجمل القصص النسوية: أمل مطير: الرجل الممزق الملامح، السلطة ثم المعتقل، إنه إرث الحكام العرب، نصفه الأسفل منتن؛ أميرة القفاري: الرجل الثري الذي يملك البيوت والنساء والأسهم والعقارت ولكنه يفقد الراحة والطمأنينة، الوجوه الذكورية المتساقطة، المتقاعد الذي يؤذي الآخرين من نافذة بيته، المتسول، المستدين الجاحد؛ شريفة الشملان: القاتل/ المنتحر، الجندي الأمريكي القاتل، الرجل المتوازن الذي تغرقه امرأة، عقدة الخواجا، لا يطيق الحذاء مخّه؛ فاطمة الرومي: المثقف الذي ورث عمامة أبي جهل، الثري الذي يشتري طفلة زوجة له، الرجلان المتزمت والسكير اللذان يصفان المرأة بأنها» ناقصة عقل ودين»؛ مسعدة اليامي: الرجل الذي يحرق عشّه، المطلِّق، العاشق(حمى الموت)، الظالم الجشع؛ منيرة الأزيمع: اللقاء معه مؤجل، القفص، أحقر شخص عرفته، «مكوك» السفر، الباب؛ نجاة خيري: المسجون، القتيل، السالب، النرجسي، النائم، الميت، المغرور، الجشع؛ نورة شرواني: الرجل الظل، الساقط، العاشق الذي مات جريحاً؛ هدى النامي: الخنجر، المتزمت، الظالم، جنازة الكرش؛الثأر...إلخ.
كل صفة من هذه الصفات تختزل قصة بعينها، محورها الرجل السلبي، حيث الرجل المستلَب في الكتابة النِّسوية، والمرأة هي الضحية وهو جلادها.
وقد خرجت قصص محدودة عن النسق السابق؛ ومن ذلك أن يكون التركيز على المرأة مع وجود الخلفية الذكورية المهيمنة في قصص شيمة الشمري، التي ترى المساواة بين الرجل والمرأة في كونهما قميصين معلقين على حبل الغسيل، والمرأة التي ترى الجميع ولا ترى نفسها، والمرأة السمكة التي تنحت من الصخر، والمرأة التي لا تطير؛ ونرى كذلك المرأة الغريبة في مدينة غريبة عند حكيمة الحربي؛ والمرأة المزوَّرة من خلال أحمر الشفاه عند شريفة الشملان، والمرأة الخائفة، والأخرى ذات الخيبات المتعددة عند نورة شرواني؛ والمرأة التي تعيش الموت وهي تلد طفلها عند هدى النامي.
سأقتصر في سياق الذات والمنظور على الكتابة النسوية، التي حفلت بذاتية المرأة ومنظورها في مواجهة الآخر الذكر(الرجل)، الذي جاءت صورته سلبية مئة بالمئة، ولم تكن له صورة إيجابية واحدة، بما فيها صورة العاشق المحمَّل بالغرور الذي يقتل صاحبه!! (11) التركيب ما كتبته هنا ليس بأكثر من مجرد إطلالة من نافذة القصة القصيرة جداً، حاولت فيها أن أركز على بعض الإشكاليات في رؤى هذا الفن وجمالياته، وبخاصة ما يتعلق بمفهوم القصة القصيرة جداً وتجربة كتابتها.
وكان في ذهني خلال كتابة هذه المقاربة ألا أكرر إشكاليات الجماليات التي سبق أن كتبتها في هذا المجال تحديداً؛ لذلك حاولت هنا أن أركز على الرؤيات السردية من خلال المضامين والمواقف تحديداً.
وكما ذكرت سابقاً، ليس بوسع هذه المقاربة أن تشمل القصص كلّها، ولا القاصين والقاصات كلهم.
ولم أسع في كتابتي إلى أن أكون معيارياً في استخدام الأحكام، ولا مصادراً لشرعية الكتابة من أي قاص أو قاصة... كانت مقاربتي مغامرة نقدية /قرائية، أشعرتني بأن قطع اليدين أخف من الكتابة النوعية عن هذا الكم القصصي الكبير.
هناك جماليات مهمة اتصفت بها بعض القصص القصيرة جداً، وهناك أيضاً خلل واضح في بعضها الآخر.
لكن المهم بالنسبة إلينا أن هذا الملف القصصي القصير جداً، هو جزء من المشهد الإبداعي في هذا الجانب بالمملكة، وأنّ هناك قاصين وقاصات آخرين لم يشاركوا في هذا الملف، وكان الأجدر بهم أن يشاركوا فيه، حتى تكون المشاركة أكمل وأشمل.
أرى أنّ من المهم أن يُصدرَ الأستاذ اليوسف كتاباً خاصاً بأنطولوجيا القصة القصيرة جداً في المملكة؛ لأن في هذا العمل توثيقاً جمالياً لهذا الإبداع المتجدد.
كل ما أتمناه أن تقدم كتابتي هذه ما يجدي أو يلفت الانتباه، وأن تسهم في طرح عديد من الأسئلة الثقافية في مجال كتابة القصة القصيرة جداً وتلقيها، في مستوى الإعلام الأكثر احتفاءً من غيره - من وجهة نظري - بمتابعة المشاهد الإبداعية وظواهرها المختلفة.
قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود