تسعى الأمم والشعوب منذ القدم وصولاً إلى عصرنا الحاضر إلى التواصل؛ فما الحضارات جميعاً إلا سلسلة من تراكم الخبرات والتجارب والمعارف التي أنتجها العقل البشري على مر العصور.
وفي وقتنا الحاضر حيث أصبح العالم قرية صغيرة في ضوء الانفجارات المعرفية والتكنولوجية الكبيرة التي نشهدها كل يوم تظهر الحاجة إلى الترجمة من اللغة العربية وإليها أكثر من ذي قبل. فالترجمة مفتاحٌ يمكن بواسطته فتح باب التواصل بين الأمم والشعوب، وعن طريقها نستطيع نقل صورتنا إلى الآخر الذي لا يعرف عنّا الكثير، كما لا نعرف عنه.
وذلك بالقدر الذي يُمكننا من أن نتبادل معه التجارب والمعارف والعلوم والأفكار فنحن لا نعيش وحدنا على كوكب الأرض كما أن الآخر لا يعيش وحده أيضاً ولكننا جميعاً كبشر نقتسم الحياة في هذا الكوكب. وبالتالي فإنه يصعب الجزم بوجود حضارة إنسانية خالية تماماً من آثار الحضارات الأخرى السابقة لها أو اللاحقة بها؛ فالحضارة الإنسانية بشكل عام هي مزيجٌ من تراكم الُمنتج الإنساني في كل المجالات وتطوّره على مر العصور على نحوٍ يستندُ فيه اللاحق على السابق.
اتصل العرب منذ عصر ما قبل الإسلام بغيرهم من الأمم الأخرى. وكما يذكر شوقي ضيف، فقد اتصل العرب الشماليون آنذاك بالأمم المجاورة لهم في مصر والشام وبلاد فارس؛ كاتصال أهل الحيرة بالفرس، واتصال الغساسنة بالروم. لقد كانت التجارة عند العرب مُمثّلةً في رحلة الشتاء والصيف طريقاً إلى الاتصال بالآخر من وجوهٍ عدّة، بالإضافة إلى أن كون الكعبة المزار الذي كان يقصده العرب كل عام حاجّين إلى أصنامهم وأوثانهم.
وفي تلك المواسم تقيم قريش أسواقها الشهيرة من مثل سوق عكاظ وذي المجاز ومجنّة وغيرها من الأسواق التي كانت مضماراً لتبادل البيع والشراء وميداناً للشعر والخطابة في آنٍ واحد (شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهلي).
وإلى جانب الأهمية التجارية لتلك الأسواق فقد كانت لها أهمية اجتماعية وأدبية بالغة. ووفقاً لعلي الجندي، فإنه في هذه الأسواق كانت تُسوّى الخلافات بين القبائل، ويُطلق سراح الأسرى وتُفضّ النزاعات كما يتبارى الشعراء والبلغاء ويخطب الخطباء وتُعقد مجالس النقد للمفاضلة بينهم. ومما لا شك فيه أن ذلك قد فتح باباً للتأثر والتأثير في لغة قريش ولسانها؛ مما زادها فصاحةً في الأسلوب وثروةً في الألفاظ؛ حيث كانت تنتقي من ألفاظ القبائل الأخرى ما يروقُ لها وتضيفه إلى لغتها (علي الجندي: في تاريخ الأدب الجاهلي).
وهكذا فإن ما سبق ذكره يشير إلى ما يُتوقّع من وجوب حدوث عملية تأثر وتأثير بين لهجات القبائل العربية المختلفة نتيجة ذلك الاتصال. إلا أنه ومن جانب آخر فإن هناك دلائل أخرى تؤكد على أن الأمر قد تعدّى ذلك إلى تأثر لغة قريش نفسها بلغاتٍ أخرى غير العربية؛ ومن شواهد ذلك ما ورد في شعر بعض الشعراء الجاهليين كالأعشى من كلمات فارسية مما يدل على قدم التأثر والتأثير بين اللغة العربية وغيرها من اللغات الأخرى بحضاراتها المختلفة.
وبناءً على ما سبق يتضح أنه قد تهيّأت للعرب منذ القدم سبل الاتصال بالآخر غير العربي نتيجة احتكاكهم بالشعوب والحضارات التي جاورتهم؛ كالروم في الشمال والأحباش في الجنوب والفرس في الشرق.
وكما هو معروف، فلقد استمرت هذه الصلات بين العرب وغيرهم من الأمم الأخرى بعد الإسلام، بل إنها قد ازدادت نتيجة الفتوحات الإسلامية وتوسّع الدولة في عهد صدر الإسلام والعصر الأموي الذي تمّت فيه ترجمة الدواوين، من مثل ديوان الخراج وغيره. وما أن نصل إلى العصر العباسي حتى نجد أن الدولة قد ازدادت اتساعاً وأن الصلات بين العرب وغيرهم من الأمم الأخرى قد ازدادت بدورها أيضاً نتيجة اتصالهم المباشر بغيرهم من الشعوب المجاورة. وبالتالي فقد ازدادت الحاجة إلى الترجمة التي اهتم بها الخلفاء أنفسهم وشجعوا عليها؛ فأنشأت دار الحكمة على يد الخليفة المأمون في بغداد وتُرجمت إلى العربية علوم الطب والفلك والرياضيات والفلسفة وغيرها.
وفي الوقت ذاته، فقد ابتدأت في ذلك العصر الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية فأفاد غير العرب بذلك مما تُرجم إلى لغاتهم في عمليةٍ تبادلية لنقل العلوم والمعارف والخبرات والتجارب من العرب وإليهم.
وانطلاقاً من نقطة البدايات الزمنية السابقة في عملية الترجمة من العربية وإليها ووصولاً إلى عصرنا الحاضر نجد أن الحاجة إلى الترجمة تزداد اليوم أكثر من ذي قبل. إن التوسع الجغرافي والانفجار التكنولوجي الهائل الذي نعيشه اليوم لمّ أطراف الأرض بعضها ببعض وزاد من أهمية وضرورة بناء واستمرارية الصلات بين الشعوب والدول المختلفة التي لم تعد أي منها قادرة العيش بمعزلٍ عن غيرها. كما أن التطور التكنولوجي وما نتج عنه من تطورٍ معلوماتي كبير يشمل طريقة نقل المعلومات وإيصالها بلمح البصر يثبت كل يوم أن المعلومة لم تعد حكراً على أحد. وكذلك هو الحال في كل ما يشمل العلوم والفكر والمعارف والتجارب والخبرات المختلفة وطريقة نقلها وتداولها. وبالإضافة إلى الدور الذي تقوم به التقنية الحديثة في عملية التواصل المستمر بين الدول والشعوب فإن لعوامل أخرى مثل الهجرة، أو السفر لطلب العلم أو العلاج والتداوي أو لمجرد السياحة دوراً مهمًا في زيادة الصلات بين الثقافات والحضارات المختلفة.
وحتى لا تبقى أي دولة من الدول أو أي شعب من الشعوب في موقع المتفرّج على ما يدور في المسرح العالمي الكبير من عملية تبادل للمعلومات والخبرات في أي مجال من المجالات فإن عليها أن تلتحم بهذا النسق العالمي فيما يختص بتصدير واستيراد حاجتها من المعارف والعلوم المختلفة. أما من سيكتفي بالمشاهدة دون الإسهام في خلق وتشكيل وتطوير هذه العجلة فإنه سيحكم على نفسه بالعزلة وبتعطيل قدراته والاكتفاء بقبول ما يصنعه وينتجه ويبدعه غيره في كافة المجالات دون أن يكون له أي حق في الاعتراض على ما لم يُسهم أصلاً في بنائه.
ومن هنا تأتي أهمية الترجمة في تسهيل وإحكام نقل العلوم والأفكار والثقافة والأدب وغيرها من أصحابِ لغةٍ إلى أصحاب لغةٍ أخرى. وهنا تكون التبادلية في عملية الترجمة هي خير طريقة لاستكمال الفائدة؛ فلا يكفي أن نترجم ما لدى الآخر إلى لغتنا، بل إن تمام الفائدة في ترجمة ما لدينا نحن أيضاً إلى لغته حتى ننقل إليه صورتنا بيدنا دون احتمالات نقص أو تشويه للأصل. فأصحاب أي لغةٍ من اللغات هم أدرى بلغتهم وهم أولى بنقل فكرهم وعلومهم وآدابهم وغيرها وهم أجدر بإيصال أنفسهم إلى آخر قد يجهل بعض أو كل ما لديهم.
إن جميع العلوم والمعارف والآداب الإنسانية وغيرها على ذات القدر من الأهمية من ناحية حاجة الإنسان إليها، ومن ناحية دورها في بناء الفكر الإنساني وإسهامها في تحقيق العيش الكريم للإنسان على وجه الأرض. وإن الأدب كجزء مما سبق هو نوعٌ من أنواع الفنون الراقية شديدة الصلة بالإنسان. ولعل من فضول القول الحديث عمّا أثبته دور الأدب على امتداد العصور في تهذيب النفس وإبهاجها في آن؛ حيث يرقى بالفرد تفكيراً وسلوكاً مع أخذ جانب المتعة التي يحققها في الاعتبار أيضًا. بالإضافة إلى ما قام به الأدب أو ما يقوم به الآن من أدوارٍ أخرى قد تختلف من عصرٍ لآخر ومن ثقافةٍ لأخرى ولكنها في كل الأحوال لا تقل أهمية عمّا سبق.
ومن جهةٍ أخرى فإن الأدب كنوعٍ من أنواع الفنون الإنسانية الراقية يبقى أكثر قدرة على خلق التقارب بين الأمم والشعوب التي قد تفرّق بينها عوامل أخرى كالسياسة أو حمّى عجلة الاقتصاد أو خلافه.
إن الأدب بكافة أجناسه من شعر وقصة ومسرحية ورواية وغيرها هو بيتُ لغة الأمة، وهو أمينُ سرّها وموطن جمال تجلياتها التي يكون لها فعل السحر الحلال حين يُغزل النص الإبداعي من خيوطها. وكما يذكر علي الجندي؛ فإن للأدب مكانة مهمة في تاريخ الأمم والشعوب؛ ذاك أنه يُظهر مواهبها ويُخلّد أمجادها وهذا ما دفع العرب في الجاهلية إلى الإعلاء من شأن شعرائهم حيث كانت للشاعر فيهم منزلةٌ عالية لما يقوم به من خلال شعره من ذودٍ عن قبيلته ورد أذى الأعداء عنها (علي الجندي: السابق).
وجاء عند ابن رشيق أن القبيلة «إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع انساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس (...) لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم» (ابن رشيق: العمدة).
* قُدّمت هذه الورقة ضمن أعمال (اللجنة العلمية بكلية الآداب)- جامعة الملك عبد العزيز –مايو 2012م
جدة