غالبُ النشاطات الجسدية التي نمارسها في حياتنا اليومية لا يُشترط لإنجازها صفاء ذهن ممارسها صفاء كاملاً، فتثبيت لوحة في الجدار مثلاً.. أو أرشفة موظف لعدد من المعاملات.. أو حرث الفلاح لقطعة أرض.. أو القيام بإعداد وجبة طعام.. أو غسيل الملابس.. أو ممارسة الرياضة.. أو غير ذلك من الأعمال المشابهة لا تحتاج إلا لجهد بدني فقط، وسيتم إنجازها حتى لو كان ذهن الإنسان معكراً أو مشوشاً، وبشكل لا يختلف كثيراً عن قيام الإنسان بإنجازها وهو في حالة مزاجية عالية.
أما النشاطات الفنية المرتبطة بالإبداع والمشاعر والأحاسيس، فللحديث عنها شأن آخر، إذ إنّه كلما زاد صفاء ذهن ممارسها زاد إتقانه لها وانجازها بشكل أفضل وأكمل.
ما أريد أن أصل إليه هو أن هناك أوقاتاً ثمينة يبلغ فيها المزاج درجة عالية من الصفاء، وتصل فيها الروح إلى مستوى مرتفع من النشوة، ويكون الذهن فيها متوقداً جداً وجاهزاً للقيام بأعمال إبداعية رفيعة المستوى، إذا أحسن الإنسان استغلال تلك الأوقات وتوجيه تلك الطاقة.
أشعر أنا شخصياً بتلك الحالات الرائعة أحياناً، ومازلت عاجزاً عن الوصول إلى أسبابها بشكل شامل ودقيق، فقد كنتُ أظن سابقاً أنها مرتبطة بأمور فسيولوجية بحتة، وأعني بذلك أخذ الكفاية من الاحتياجات العضوية الأساسية التي أوردها «ماسلو» عند حديثه عن المستوى الأول من (هرم الاحتياجات الإنسانية)، وهي: النوم والطعام والشراب والاتصال الجنسي وتنفس الهواء النقي والإخراج الكامل للفضلات -أكرمكم الله- ولكن اعتقادي السابق تحطم فوق صخرة الملاحظة الواقعية، فقد داهمتني تلك الحالات الجميلة في أوقات أكون فيها بحاجة ماسة لبعض تلك الاحتياجات!
وبغض النظر عن الأسباب التي تؤدي إلى تلك النشوة الروحية الساحرة، التي أجزم أنكم جميعاً شعرتم بها ولو لمرات معدودة في حياتكم.. بغض النظر عن ذلك أقول: إذا شعر الإنسان بتلك المشاعر الإبداعية العجيبة، التي تجعله مهيئاً للانطلاق القوي والركض السريع في ساحة موهبته الوجدانية، فيجب عليه -في رأيي- التوقف عن أي عمل من أعماله الروتينية الجسدية اليومية، والتفرغ التام لمواهبه وأعماله الفنية السيكولوجية البحتة، المرتبطة بالروح والخيال. أجزم أن استغلال كثير من العظماء لتلك اللحظات التي لا تقدّر بثمن، هو السبب الرئيسي أو أحد أسباب ظهور عدد كبير من الأعمال الفنية الكبيرة التي خلدها التاريخ وحُفرت في ذاكرة الناس، سواء كانت تلك الأعمال رسوماً أو شعراً أو روايات أو معزوفات موسيقية أو غيرها من الأعمال الشهيرة الكبرى في مختلف مجالات الإبداع.
يخطر على بالي بيتُ شعرٍ فصيح وآخر شعبي عامّي، قد يساهمان في إيصال فكرة هذا المقال، فالفصيح قول الإمام الشافعي:
إذا هَبَّتْ رياحُك فاغْتَنِمْها
فَعُقْبَى كُلِّ خافِقَةٍ سُكُوْنُ
والثاني قول الأمير خالد الفيصل:
إلى صفالك زمانك علّ يا ظامي
اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها
ولربط البيتين بفكرة المقال أقول: إذا هبّت رياح خيالاتك ومشاعرك وارتفعت حالتك المزاجية ونشوتك الروحية، فعليك باستغلال تلك الرياح فوراً، وتوجيه الطاقة إلى الموهبة التي تحبّها وتتقنها.. تفرّغ تماماً لها وتجاهل كلَّ ما سواها من مشاغل الحياة، التي يمكن إنجازها في أوقات أخرى، وثق تماماً أنك ستقدم شيئاً ثميناً إذا أحسنت استغلال هبوب تلك الرياح الروحية المزاجية. اشرب من نبع ذلك الماء الإبداعي النقي قبل أن يكدره مكدِّرٌ معلومٌ أو مجهول!. وهناك نقطة أخرى غريبة، وهي أنني لاحظت أن تلك اللحظات الثمينة تمرُّ بي بشكل أوضح، عندما تضيق حلقات الحياة عليَّ، فتكون تلك اللحظات باباً للفرج الكامن في التعبير القوي والبوح بمكنونات النفس والعقل.
إن التعبير الجيد عن مشاعرك وما يدور في خلجات نفسك، عن طريق موهبة معينة تتقنها، واستغلال الأوقات والظروف التي تساعدك في إجادة ذلك التعبير.. إن ذلك من أنجع أدوية التعب النفسي، الذي ينتابنا بين الفينة والأخرى، في هذا العصر الذي زادت فيه ضغوط الحياة وصعوباتها.
وأزيدكم من الشعر بيتاً، فقد تأملتُ في سيرِ كثيرٍ من مشاهير المبدعين، وعلى رأسهم الكاسرون للمألوف والمتصادمون معه والثائرون عليه، والقالبون للطاولة في وجوه أحبابه الساكنين به والمطمئنين له، فوجدتُ في حياة أغلبهم ألماً معيناً أو معاناة ما، سبقتْ ما جاء به من الأمور التي توصف بأنها عظيمة باهرة أو خارقة للعادة، مما ينتجه الناس في هذه الحياة. ولذلك أرى أن استحكام حلقات الضيق من أمرٍ ما، قد يكون أحد أهم أسباب حركة تلك النواميس الخفية المجهولة، التي تعمل على تحويل الطاقة الروحية الملازمة لردود أفعال الضجِرين الضائقين ذرعاً من أمور أزعجتهم، إلى إبداعات عظيمة يخلّدها التاريخ.
الرياض