(أ)
إنه لمن الطبيعي أن لا يسلم أي خطاب سياسي أو اقتصادي أو ديني من أزمات متفاوتة تمر به أثناء القيام بأعماله، وتلك الأزمات مصدر يصقل الخطاب خبرة ودراية كلما اعترف بها معالجة حتى الخروج منها، وهي مصدر لضعفه كلما تجاهلها. والخطاب السلفي السياسي ليس بدعاً لينجو من هذه الحتمية التنظيمية والفكرية والثقافية؛ فالاعتراف بالأزمة ليس انتقاصاً للخطاب، بل ضرورة يلزمها الوعي الاستمراري لأي خطاب يسعى للتحرر من الضيق إلى السعة -وليس اشتراطاً أن يكون الانفراج من (جهة الآخر) المرتبط بالأزمة- إنما مشتقة من موسوعية المتون التاريخية، التي تنهل منها المدونة السلفية المعاصرة. ولأمر يهم المقالة -ها هنا- أفرق بين (المتون السلفية التاريخية) على أنها المحتوى التاريخي للأصول والممارسات والتأويلات الأولى، و (المدونة السلفية) المكونة من اختيارات دعاة الخطباء على أنها تمثل بمفردها المتون المتعددة.
أزعم أن مأزومية الخطاب السلفي اليوم تنبع من دعاته ومن معارضيه معاً؛ فهو على صعيده الداخلي عاجز عن مواكبة تطورات الراهن المؤثرة، ولطالما صقور الخطاب لا يعترفون بأزمته، أما حمائمه إذ يعترفون بالأزمة فإنهم لا يحيلونها إلى خلل في الخطاب، فلا يلتفتون إلى ضيق المفاهيم والدلالات المحصورة على أنها إشكال يتحمل وزر الأزمة ويحتمل المراجعة والمعالجة، كما أن الخطاب المناهض عجز بدوره عن مناقشة الخطاب السلفي حين يحاكم المنقولات تاريخياً، موهوماً بتأثيراتها على الواقع السياسي، وخالطاً بين البحث العلمي والسياسة الواقعية وأيهما يؤثر اجتماعياً، وتمثل الوهم في أن خلع القيمة التاريخية من المنقول بما يبرر إزاحته من المدونة؛ ما ساهم في تضخم الأزمة والخلاف؛ فهذا يريد شرعنة مدونته بحجة قدسية السلف المنقول عنهم بانتقاء المخرجات وليس المنهج، وهذا يريد أن يحاكم المنقول بالطعن بقيمته في المتن التاريخي، والأصل في التفاوض على المنقولات يكمن بإحالتها للمعاصرة تبعاً لاختبارات قانون الصلاحية، وهذا ما غاب عن دعاة الخطابين، بغض النظر عن قيمتها التاريخية والدينية، فإثبات القيمة التاريخية أو نفيها ليس معياراً لإزاحتها أو إثباتها في المدونة المؤثرة على الراهن.
وإذ تناقش هذه المقالة اتساع (المتون السلفية التاريخية) وانفتاح مفاهيمها وتعدد دلالاتها وحملانها على معاني (التقدم، التعدد، التعايش) في مواجهة خطاب يختزلها إلى مدونة انتقائية معصومة، تخص دائرة ضيقة، وليس من الممكن الفكري والعقدي إلزام الفرقاء بها، فإنما نأمل تفكيك المأزومية المتمثلة في: (إغلاق المفاهيم، حصر الدلالات، الأنا البديلة، وطمس الحاضر)؛ بحيث إن إغلاق المفاهيم قائم على الظن باكتمالها وكمالها، وأنها بلغت حداً لا ينبغي اختراقه أو الاقتراب منه بحثاً في مدى ملاءمته للمعاصرة؛ فالاعتقاد بكمال مخرجات السلف يؤدي إلى (الافتنان) بهم، فإلى أي مدى ينجرف الخطاب إلى التوثين حين يخلط في متنه بين قدسية النص وإنسانية معاصريه وتابعيه ومريديه!
كما يؤدي حصر الدلالات في التقليديات والمألوفيات إلى جاهلية ثقافية تخلط الأصول بالعادات، والثابت بالمتغير، والصالح بالمتقادم، والممكن بالمستحيل.. وهذا اللاتفريق يغلب في المدونة المصممة على أنها (النسخة طبق الأصل) عن السلف الصالح؛ فممارسات التعصب الثقافي وقناعاته ليست بعيدة عن التعصب العرقي، حين يكون اصطفاء العرق عنصرية تعتمد في منطقها لغة ذات دلالتَيْن (التمجيد والازدراء)؛ إذ إنها لا تقدر أن تمجد نفسها دون ازدراء الأعراق الأخرى، هكذا أيضاً تكون الجاهلية الثقافية بالتقوقع في المألوفات والتعامل معها بذهنية التعصب النابذة لأي ثقافة مختلفة بوصفها (غريباً/ نجساً).
ويكون في (الأنا البديلة) أن الجزء يظن بنفسه تمثيل الكل، وأنه الناطق الطهراني الذي يخلص الكل من درن الأجزاء الأخرى. من هنا فإن هذا الجزء يقوم على حملان السلفية على معانٍ مبتورة، إن تلبي حاجات دائرة ضيقة من المنتفعين فإنها لا تلبي حاجات وضرورات الدوائر الأوسع، فأي حجة في إقصاء التعدد مقارنة بمتون التوسع الحضاري الإسلامي، ابتداء بخروجه لفضاءات الآخر بدلاً من العزلة، وليس انتهاء بالتفاعل والتعايش مع ثقافات الشعوب وحفظ آثارها. وكيف نفهم بقاء تراث الثقافات المختلفة وسلامة متونها وتشخيصاتها (من دور العبادات، رموز دينية، كتابات ومخطوطات وترجمات، آثار وعلامات، عادات ولغات). أليس في هذا الإرث مشروعية للتعايش والتعدد، وضمانة لتمدن لا يخدش روح الأصول والتأويلات (الصالحة) ويرفع من مستوى مدنيته وعلومه، وذلك حينما نتجاوز ضيق المدونة إلى سعة المتون؛ حيث إن أصل كينونة (السلف) حالة في المحتوى التاريخي وحاملة للخصائص جميعة. إذاك فإن ادعاءات توصيف (السلف) بمحدودية إبداعاته، وندرة إعماله للعقل، والطعن في قبوله التعدد والتعايش لا تستند إلى دفوعات من المتن التاريخي؛ فالمتن أوسع من ضيق المدونة. ومن البداهة كلما اتسعت المدونة بالمنقولات الصالحة ازدادت استطاعتها على مواجهة الأزمات.
(ب)
إن انتقال مناهج ومخرجات الإرث التاريخي إلى نطاقات المعاصرة ليس بدعة أو لعنة ابتُلي بها الخطاب السلفي السياسي؛ حيث إن العلم والحضارات لا يتخليان عن (سلفهما الصالح)، وفقاً لاختبارات قانون الصلاحية: وهو اختبار للمنقولات ومقارنة مدى واقعية وعلمية مدلولاتها وحمولاتها تحت شروط الظرفية والنفعية والإمكانية القابلية؛ (فالاعتقاد بأن الأرض محمولة على ظهر حوت أو سلحفاة) جزء من تاريخ السلف، لكنه اليوم لم يعد (صالحاً)؛ وبالتالي يقصى من المدونة النافعة، أما (الحسابات الزمنية للساعة والأيام والسنة مثلاً) إرث (صالح) وطبيعي أنه في المدونة المعاصرة المنقولة؛ لذلك فإن طبيعة العلم التراكمية تأخذ بمخرجات السلف الصالحة، لكنها لا (توثنها) أو تغلق باب البحث فيها؛ فحينما يطلب النص المقدس من أتباعه: العنكبوت/ 20 {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} فإنما يأمرهم بعدم الاتكاء على المعلومات المتوافرة والمنقولة؛ إنه أمر بتطوير المعلومات عبر البحث والعقل. والجمع في الآية إنما يعني تعاقب الأجيال والاستمرارية في قانون إخضاع المنقول للبحث، ولا تعني جميع أفراد الأمة في زمن بعينه.
هل تخلت الإنسانية عن فلسفات سقراط، أفلاطون، أرسطو؟ هل من الشطح القول إنهم (سلف صالح) للفلسفة الإنسانية؟ علماً بأن مفهوم الصالح هنا ليس مرتبطاً بالمنظومة الأخلاقية بل بالظرفية، والنفعية والإمكانية. وعلى هذا المنطق فإن مفاهيم السلف الصالح ليست مقصورة على خطاب إسلاموي، بل هي ضرورة أساس في حركة تطوير التاريخ، ولا يمكن التخلي عنها، لكن تحت اشتراطات تنقيتها من التقادم وخضوعها لاختبارات قانون الصلاحية.
ختاماً: إن أي من ينهل من المتون التاريخية مفاهيم ذات صلاحية فإنه يتفق مع مدلول (السلف الصالح) الذي نقدمه هنا، أما الإتيان بما فقدت صلاحيته وصلاحه بحكم التقادم - لا بحكم قيمته التاريخية - إنما يخالف معايير التقليد والتجديد، والنقل بأعمال العقل، وهي معايير ضرورية لا بد من حضورها بقوة لدى مناقشة ضيق المدونة السلفية المعاصرة ومقارنتها باتساع المتون السلفية التاريخية، فلا يمكن الاستغناء عن منجزات الأسلاف، فأساس الإنسان وتطوره هي ارتباطات (الذاكرة، العقل، التاريخ)؛ حيث يقلب العقل ما تنقله الذاكرة ويدونه التاريخ. هكذا نجد العلوم والمعارف والفلسفات كلها منقولة ومتطورة بحكم إعمال العقل فيها، حضارة إلى جوار حضارة أو بعدها؛ حيث إن نقل المعرفة من (زمان ومكان) إلى آخر مختلف الأبجديات والاحتياجات إنما يتطلب بالحد الأدنى ترجمته وفق النفعية والملاءمة أو ما أسميه (اختبارات قانون الصلاحية).
Yaser.hejazi@gmail.com
جدة