هل الليبرالية ضد الأديان؟!
لقد كان هذا السؤال مثار جدل في أحد المجالس العامة بناءً على سلسلة المقالات التي بدأتُ في كتابتها عن الليبرالية، إذ كان يُصرُّ أغلبُ الحاضرين على أن الليبرالية في الأصل معادية لجميع الأديان وتحديداً الدين الإسلامي بوصفها ديناً آخر. وهنا بالتحديد تقع إشكالية المفهوم السطحي لمصطلح الليبرالية في الذاكرة الجمعية لدينا كمجتمع تربّى وعاش على ثقافة الرأي والمذهب الواحد. الليبرالية كفر وخروج عن الدين وتفسخ أخلاقي وشاطئ للعراة وزواج للمثليين وغيرها الكثير ممن سممت به عقول المجتمع على أنها هذه هي فقط الوجه والجسد الحقيقي لليبرالية كمطلح وممارسة. يعرف أحد الكتاب الفرنسيين مفهوم الليبرالية: رغم تعدّد معانيها ورغم التطورات اللاحقة التي طرأت على تصوّراتها، فإنّه يمكن إرجاع الليبرالية إلى الفكرة المحورية التالية: أنّ الإنسانية بلغت سنّ الرشد، وقادرة بمفردها على تسيير شؤونها دون وصاية خارجية. إنّ النظام السياسيّ الذي ينتهج نهج الليبرالية هو نظام متفائل بقدرة الاجتماع البشري على تحقيق أسباب التقدّم عن طريق الحوار وتصحيح أخطائه بالتجارب المتعاقبة. الليبرالية ترتكز أساساً على مبدأ الحرية الفردية واحترام حرية الآخرين؛ إنّها التسامح المتبادل والشامل على شرط ألاّ يكون خاضعاً لأيّ ريبيّة أو لامبالاة، لأنّ «الليبرالية لها معتقد، ومعتقدها هو التقدّم، واقتناعها هو أنّ الحرية في ذاتها هي خير وتَطمح إلى الخير، وأنّ الحقيقة تنبع من الحوار، وأنّ تَحسّناً لامتناهياً هو حركة طبيعية للإنسانية.
نعم، فإن الإنسانية الرشيدة والعاقلة هي المحفز والمحرك الوحيد للإنسان لبناء المجتمعات ولقيادة التسامح والإبداع والفنون والتطور التكنولوجي، فليس لأي دين مهما كان علاقة في التقدم البشري المدني، ليس نقصاً في أي منها، ولكن لأنها (الأديان) علاقة خاصة ودقيقة وروحانية بين الفرد وبين الخالق، والقرآن الكريم كتاب عظيم للتعبد الرباني الخالص مصداقاً لقوله تعالى: {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}. وقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. حيث إن القوانين الوضعية حاجة إنسانية واجتماعية لا مفر منها، فنظام المرور ونظام العمل ونظم إدارة الدولة بمجالاتها كافة لا يمكن استسقائه من الدين على الإطلاق.
الليبرالية توفّر كل ما يضمن للحريات الفردية الوجود، ويحفظ حرية ممارسة العبادة، دون أن يفرض على المجتمع وصاية مذهب أو طغيان، ولا يلزم أحداً بتأدية شعائره تحت القوة أو الضغط على ضمائر الأفراد، فهذه مكتسبات إنسانية لا تنازل عنها ولا تفريط فيها.
إن المجادلين فيها هم الإسلامويون، وثلة من اليمينيين الغربيين، من الرجعيين الأوروبيين في القرون الوسطى، وهم مناهضو الثورة الفرنسية والموالاة للكنيسة والإقطاعية. إن الأديان في مفهوم الليبرالية هي: مجرّد خيارات خاصة وشخصية، فالدولة الليبرالية دولة بلا دين، وهذا لا يعني أنها مُلحدة، بل لأنها تحفظ حقوق كل الأديان وترعاها وتنميها دون أي تمييز أو إعلاء من شأن واحدة على أخرى أو محاباة لمعتقد الغالبية العظمى فيه، كما إن الليبرالية هي البنية المعرفية والنظرة باتجاه حياة حرة وخيرية للجميع، وهذه الرؤية تنسجم مع الدين الإلهي الذي يدعو دائماً وأبداً للخير والحب والسلام.
جدة