والعيون هي العيون. وها نحن كأننا لا نزال كما نحن، ولا نزال نرحم أنفسنا ونعطف عليها. نتحايل على الواقع ونختلق أعذاراً تجعل منا الأبرياء. ونعرف، أن لكل منا مع البراءة كذبة كبرى منذ الطفولة.. هل كانت طفولتنا بريئة؟ ألم نكن نصرخ في وجه من يقبّلنا إذا كانت يداه فارغتين من لعبة أو حلوى جديدة؟! وكم كنا نصطنع البراءة وما هي إلاّ شعورنا بالأمان. هل اختلف الشعور بالأمان الآن؟ الخوف هو الخوف، والأمان الذي نحسبه البراءة ما هو إلاّ الشعور بالانتصار على الخوف. الفرق الوحيد أن نا كنا نجد من يعذرنا، بينما الآن نستطيع أن نغمر أنفسنا بالأعذار حتى نكون الأبرياء في كلّ الأحوال..
يتعذّرون على يمينكَ أن تصافحَ واحداً،
مرّت به أسفارُهُم حتى افتراقكَ عن خُطاكْ
يتعذّرون على يديكَ،
وتعذر الإنسانَ في يدهم يداكْ
والآن تمشي، مثلما يمشي حفاةٌ للزوايا
الآن تمشي، مثلما يمشي عراةٌ للمرايا
الآن تمشي، إنما..
لم يستطع مشياً كمشيكَ كائنٌ
كانت تقابلهُ الأماكنُ بالهدايا
ثم ترجمُهُ الكواكبُ بالضحايا
ثم تكسرهُ العيونْ
الآنَ همْ يتعذّرونْ
وسيعذرونكَ حينَ تصبح مثلَهم
أو مثلَ نفسكَ: لا أحدْ
هي ذي بلادٌ في الشوارع، أو شوارعُ في بلد؟
لم يعد ثمة فرق بين الحركة والسكون، كلها براءة في مرايانا البريئة. فما دمنا لم نسرق شيئاً، فمن حقنا أن نسخر ونتسلّى بكلِّ من يعطينا كلَّ ما يملك. وما دمنا لم نقتل أحداً، فمن حقنا أن ننسى ونتجاهل كلَّ من مات من أجلنا. هي البراءة عذرنا الحاضر أبداً، فمن ذا الذي يستطيع أن ينام أو يصحو بلا عذر؟ سنظل ننام ونصحو خفيفين تحملنا أعذارنا إلى حيث نشاء من النشوة والرّضا، بكلّ براءةٍ هي بريئةٌ منا مهما أجدنا تمثيلها واقتنعنا بأدائنا المتقن إلى حين.. إلى أن يكون المنام والصحو حالاً واحداً نتوه في جنباته طويلاً.. طويلاً.. حينما تذوي الأعذار.
ما عادَ لي عذرٌ، أخذتُ كفايتي
منذ احتباس الذات في الذات الحبيسةِ
كانت الأيامُ قاصرةً
وكان الليلُ أبرأ من خيوط الشمسِ
حول سوادها المعتادِ
والأولادُ كانوا بالبراءة يلعبونَ
ويكبرونْ
ما عادَ لي عذرٌ.. كبرتُ؟
نعَمْ
وبكلّ أعذاري.. تعبتُ؟
نعَمْ
ولقد مللتُ من البراءة، مثلما
ملَّتْ من الأجفان مرآةُ العيون.
ما عاد لي عذرٌ، سوى بعضِ الجنونْ.
ffnff69@hotmail.com
الرياض