يمثل الخطاب العلمي النتيجة العلمية لطريقة عمل العقل الذي من خلاله ينظر الإنسان إلى الأشياء، ويحكم عليها، وحين تصاب هذه النتيجة بالخلل، فإن هذا يعني أن العقل المنتج نفسه مصاب، وهو ما يعني عدم الثقة بما ينتج عنه، وتأزم المشكلة التي يعانيها الإنسان.
وحين تتسلل مكونات التطرف إلى العقل، فتصبح قائدة له في النظر، والحكم، كما تصبح المنطلقات التي ينطلق منها في النظر إلى الأشياء، فإن هذا يعني أن الجهاز العلمي أجمع قد سقط باعتبار أن معايير التمييز قد اختلت فأصبح يقدم ما ليس مقدما، ويفضل الأشياء بناء على اتصافها بصفات خاصة حددت سلفا ليست مما تواضع عليها العلماء، وهنا لا يمكن الوثوق بالعلم ولا الاعتماد عليه أو على أحكامه في النظر والتقويم.
فمكونات التطرف المتمثلة بالإقصاء، والتصنيف، وتضخم الذات، ورفض الآخر بناء على موقفه الثقافي تتجلى في عدد من الأعمال العلمية، وذلك من مثل أعمال الكاتب جمال سلطان كما في كتابه «جذور الانحراف...»، الذي يتناول فيه جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث كما هو العنوان.
يذكر في المقدمة أن جذور الانحراف قديمة لم تتوقف إلا قبل عقدين من الزمن. والإشكالية لا تتمثل في النقد الذي وجهه إلى التجربة السابقة بأنها ناقصة، أولم تثمر ثمرا يانعا، أو أن له عليها ملحوظات، أو أن هذه التجربة الجديدة تحاول أن تسد نقص التجربة السابقة وتكملها، فإن هذا أمر معتاد في البحث العلمي الذي ينبغي أن يقوم على ذلك، وإنما تتمثل بوصف التجربة بأنها «انحراف». ونحن نعلم الإيحاء الذي تحيل إليه هذه اللفظة في ذاكرتنا اللغوية، إذ يتصل بالانحراف الأخلاقي، أو الديني. وهو ما يبينه قوله:
«وقلما كنا نحاول تفهم أسباب الانحراف، لقد كنا نكتفي بالمثل العربي القديم «البعرة تدل على البعير» وحقا لقد كان حجم البعرة التي خلفتها هذه التجربة في الفكر والقيم والتمدن، من السوء والانحطاط والكآبة، إلى الحد الذي يشهد على عمق الضلال الذي عاشه أبناؤها» (سلطان، 1412، ص5).
هذه الأوصاف التي أطلقها على التجربة وأبنائها، تبين موقف الكاتب الأيديولوجي، الذي لم ينطلق من معطيات موضوعية تبين نوع الانحراف، وحجمه الذي أصاب تلك الجذور، وهو ما يبينه حديثه عن رفاعة الذي لم يذكر فيه تلك المآخذ التي جعلته يعده من جذور الانحراف إلا خطأ واحدا تردد في كل ما ذكره عنه، وجاء عنوانا جانبيا لحديثه ذلك «النهضة تشرق غربا».
على الرغم أن هذه الحقيقة لا تعارض المبدأ الأصيل القائم على «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا» الذي يدعو إلى الاعتراف بحق المتقدمين بالتقدم وبفضلهم مهما اختلفنا معهم، وأن الأمم يستفيد بعضها من بعض، واللاحق من السابق. يتمثل هذا المأخذ بأن رفاعة يرى وجوب الاستفادة من التقدم الأوربي، والتحاور معهم، والاتصال بهم، والتتلمذ عليهم بدلا من التحارب معهم، وذلك بناء على أنهم متقدمون ونحن متخلفون. وقد نص رفاعة نفسه على أن ذلك فيما لا يتعارض مع القيم والثوابت الإسلامية كما نقل المؤلف نفسه: «ومن المعلوم أني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نص الشريعة المحمدية» (سلطان، 1412، ص20). في حين يرى الكاتب أن إسقاط المواجهة مع المتفوقين حضاريا يفتح إلى طريق ذي اتجاه واحد هو طريق التبعية.
هذا الموقف الإيديولوجي للكاتب/جمال سلطان القائم على العلاقة الضدية مع الآخر موقف متطرف لأنه لا يرى في العلاقة بالآخر إلا التبعية أو المواجهة ولا يمكن أن تكون هناك علاقة احترام، الأمر الذي جعله يؤول كل ما قام به رفاعة من جهود تحافظ على الأسس العلمية والثقافية العربية إلى النقيض منها، بما في ذلك موقفه السابق، وموقفه من أصول الفقه الذي يرى فيه علما يحتوي على المعارف والأسس العلمية التي قامت عليها قوانين الأوربيين، وهو ما يعني أن الفقه المعتمد عليه بالاستنباط قادر على أن يفي بحاجات الناس الحقوقية، وسواها من المواقف التي ذكرها الكاتب.
فمواقف الطهطاوي المتكررة والمتضمنة دفاعه عن التراث الإسلامي التشريعي، واعتماده بالاستحسان على ما لم يخالف الشريعة المحمدية، وإيمانه المطلق بأن التمدن ينبغي أن يكون للإسلام، وذمه لفرنسا وتفضيل مصر عليها لأنها مسلمة، ذهبت لأنه ترجم بعض الكتب الفرنسية، ودعا إلى توثيق العلاقات بالممالك الأجنبية بحجة إسقاط الحاجز النفسي بين البلاد العربية والأوربيين، وأن هذا نوع من التبعية الحضارية، و»التعبئة النفسية للأمة لكي تتقبل عملية تقليد التشريع الأوربي» (سلطان، 1412، ص16).وهي حجج قائمة على تأويلات نفسية لمشروع علمي وثقافي جعلته يعد الطهطاوي من جذور الانحراف، ويصفه بأنه من دعاة التبعية المطلقة، التي لا تحمل إلا وجها واحدا، ومن الذين يعانون الانفصام الحضاري كما أنه محاسبة له على ما قامت به الأجيال من بعده، وليس ما قام هو به، أو على معطيات علمية محددة من خلال أعماله.
والأمر اللافت للانتباه أن ما ذكره المؤلف من انقطاع الطهطاوي للعلم وطلبه منذ وقت مبكر في حياته، واتصاله بالثقافة الفرنسية بعد إتقانه العلوم الأزهرية وحفظه القرآن ، لم يشفع له في اعتبار ما سعى إليه كان اجتهاد عالم بذل وقته، وأنفق جهده في سبيل أمته، وقد أخطأ الأئمة السابقين، ولم يشنع بهم أحد، فلم يصبح خطأ الطهطاوي دالا على الانحراف، والتبعية، والخيانة إذا كان هناك خطأ حقيقي؟
وما قام به الكاتب هنا يؤدي إلى تضييق دائرة الصواب في جماعته هو، وحصرها في الأنا، والتقوقع عليه، ليس الأنا العربي المسلم في مقابل الآخر الأوربي، ولكنه تقوقع في الأنا الضيقة داخل العربي المسلم التي تتحول إلى آخر، وإذا لم يكن هذا هو التطرف فما هو التطرف إذا؟
الرياض