لا.. لن نخوض في حقوق الملكية الفكرية؛ فالتملك هنا من نوع آخر، يندرج تحت نظريات التلقي الحديثة، ويختص بمسائل القصدية والغائية التي تحرك المؤلف لإنتاج عمله القصصي. حين يكتب المؤلف يكون قد حدد لنفسه غاية ومقصداً، وتكون إرادته هي المسيطرة على تشكيل عمله بالصورة التي يرتضيها. لكن الكاتب يعرف جيداً أن عمله هذا متوجِّه إلى قارئ ما، قارئ نموذجي مثالي، أو افتراضي محتمل، أو حقيقي وعادي، فهو الهدف المسرود له. يعرف الكاتب جيداً أنه يعطي الحياة لعمله ما دام ينتجه، لكن العمل سيحتاج إلى فعل التلقي الذي يضخ في عروقه نبض الحياة باستمرار.
حين سردت شهرزاد للملك شهريار حكاياتها الخلابة كان المتلقي مضمراً في داخلها بوصفها راوية، بمعنى أن الهدف هو أذن السامع؛ لذلك فهي تقدم له ما تعرف أنه سيخلب لبه ويملك حواسه، بل ويغير من طرق تفكيره وأسلوب تعامله. سرد شهرزاد كان موجَّهاً إلى خصمها اللدود؛ لذا فهو سرد مليء بالمداراة والمسايسة، هو سرد مفصّل على مقاس شهريار؛ وبالتالي فالحكايات التي سخرتها شهرزاد له تخصه وحده، وهي ملك له.
ذكر لي أهلي وقائع كثيرة عن حكواتي كان يجلس في القهوة القديمة، وبيده كتاب يقرأ منه سير ومغامرات الأبطال مثل عنترة بن شداد والزير سالم وسيف بن ذي يزن، وكان يسحرهم بأخبار وقصص يتفاعلون مع أجزائها كل مساء، ويتعلقون بشخوصها التي يرسمها خيالهم، ويربطها بالواقع بقوة. كل مساء يجلس الحكواتي على كرسيه في القهوة ويتحلق من حوله رجال يستمتعون بالجزء الذي يقصه عليهم، لكنه لا يدرك مدى انسجام السامعين مع فضاءات الخيال الحكائي، حتى يصعق من اعتراضاتهم على سير أحداث القصة وامتعاضاتهم من نهاياتها المخيبة لتوقعاتهم. في إحدى المرات كان عنترة يواجه صعاباً ما أدت إلى سجنه في نهاية الحلقة. حين ذهب الحكواتي إلى بيته، واستلقى لينام، فوجئ بدقات متسارعة على باب منزله، وحين فتح الباب كان جمهور الحكاية متجمعاً يطالبه غاضباً بإخراج عنترة من سجنه في الحال. وفي رواية أنهم أعطوه مبلغاً من المال جمعوه فيما بينهم ليدفعوا عن عنترة ديّة خروجه.
هؤلاء المتلقون شعروا بأن لهم حقاً في الحكاية ما داموا يسمعونها، وأنهم حين لا يرضون عن أحداثها فهم لا يتورعون عن التدخل لتغييرها بأي وسيلة ممكنة. كل هذا وهم يتلقون حكاية من كتاب، فما الذي كانوا يفعلونه في حكواتي يلقي قصصه شفاهة ومن ذاكرته، وكأن القصة تنبع من خياله الخاص؟ فن الحكي يعتمد على التفاعل مع المتلقين بشكل مباشر، وقد وفر القرب المكاني والزماني للحكاية تلك الحميمية التي كانت تميز السرد الشفهي، فالقصة تتغير وتتبدل حسب الجمهور الحاضر ساعة رويها، وقد شهدت بنفسي خلال مراحل جمعي الحكايات الشعبية الحجازية كيف تقوم الراويات بإجراء تعديلات فورية على حكاياتهن حين يلقينها في حضور نسائي حصري، أو في حضور رجال، أو في حضور أطفال، فكلهن يستشعرن مطالب المتلقين ويحوِّرون القصص لتتناسب مع تلك المطالب حتى لو لم يصرح بها أولئك المتلقون.
من بين السيدات اللواتي التقيتهن لتسجيل بعض الحكايات التي يحفظنها سيدة اختارت أن يكون جمهور السامعين من الأطفال الذي سمعوا منها الحكايات سابقاً. عندما أقول إن الراوية كانت تحفظ الحكاية فذلك لا يعني أنها تحفظ كل حرف فيها، بل إن جميع الراويات كن يحفظن روح القصة ويحتفظن لأنفسهن بمساحة واسعة من الخيال والتلاعب بالتفاصيل، وهذا جزء مهم جداً من فن الحكي. المهم أن الأطفال ظلوا يقاطعون تلك السيدة كلما خرجت عن النص قليلاً، فلو قالت جلست البنت على الباب وقد ارتدت فستاناً أحمر، صرخوا جميعاً: بل فستانها أصفر!!. ولو قالت: وطلبت البنت من أمها نقوداً فأعطتها قرشاً. صرخوا جميعاً: بل أعطتها قرشين!! وتكررت هذه التعديلات على القصة، حتى نفد صبر تلك السيدة؛ فما كان منها إلا أن قامت بطرد الأطفال من أمامها وهي تقول: «هي حكايتي ولا حكايتكم؟ يا للا قوموا من قدامي».
لنا أن نبتسم من طرافة الحادثة، لكن هذا الموقف شديد الأهمية؛ لذا فهو صلب الموضوع لقصة قصيرة للكاتب الأمريكي المشهور جون أبدايك عنوانها: « هل يجب على الساحرة أن تضرب الأم ؟ Should Wizard Hit Mommy? «. تقدم هذه القصة شخصية لأب عوّد ابنته الصغيرة على أن يحكي لها قصة ساعة النوم كل يوم لمدة طويلة. عندما بدأ قصته مع بداية القصة وجد أن الطفلة التي كبرت كانت تقاطعه كثيراً بتساؤلات منطقية تفسد عليه متعة الروي الخيالية. تقف الطفلة في وجه والدها بقوة وهي تعترض على النهاية التي لم تتقبلها كما كانت تفعل في السابق، وتطالبه بتغييرها؛ فيشتد غضب والدها ويصرخ فيها:» لا, إنها حكاية بابا ولن يغيرها.. أتريدين ألا يحكي لك بابا حكاية بعد اليوم؟؟».
هذا الصراع على ملكية القصة ظل محل نقاشات طويلة في نظريات النقد الأدبي، وهناك من الكتاب مَنْ يتحسس من كل كلمة نقد تصدر من قارئ بخصوص عمله، ويشعر بأن من واجبه أن يدافع عن شخوصه وأحداثه، وقد يقع في خطأ جسيم حين يحاول أن يوضح أهدافه ومقاصده بشكل إلحاقي مبرر ومفسر ليساعد القارئ في تلقي عمله بالشكل الذي رسمه له. لكن كل النقاد يقولون للكتاب إن العمل حين يصل إلى الورق على الكاتب أن يقطع الحبل السري الذي كان يربطه به، والعمل حين يصل إلى القارئ يصبح ملكاً له يؤوله ويحبه أو يكرهه كيفما يشاء.
كانت الصحافة في أوجها في بريطانيا حين كان الروائي البريطاني الكبير تشارلز ديكنز يكتب رواياته مسلسلة على صفحات الجرائد، وكان يبدأ الحكاية بمقولة مشهورة عنه، وهي : «عزيزي القارئ». ديكنز كان يكتب حلقات رواياته وينصت لردود فعل قرائه بشكل متزامن، يعني أنه لا ينتهي من كتابة الرواية ثم يرسلها للنشر على حلقات، بل يكتب الحلقة في الوقت الذي يقرؤها المتلقون. كان ديكنز يعرف ما يعجب القراء وما يثير اهتماماتهم؛ لذلك عرفت رواياته بالتطويل والكتابات الجانبية التي تنحرف عن الموضوع الرئيس، ثم قد يصل الحال إلى كتابة نهاية لرواية واحدة، مثل رواية (التوقعات الكبرى Great Expectations )، ثم تغييرها وكتابة نهاية ثانية تتناسب مع ميول القراء ومطالبهم.
كان ديكنز يقر بحق القارئ في التحكم في بناء وحبكة ونهاية العمل الذي يتلقاه، وربما كانت هناك ضغوطاً من الصحيفة لمحاباة القارئ؛ كي يقبل على شراء العدد القادم كلما قدم له ديكنز ما يرضيه ويشبع رغباته. وهكذا فعل مثلاً غازي القصيبي حين كتب روايته الجميلة (حكاية حب)، ثم ألحقها بجزء ثاني، هو رواية ( رجل جاء وذهب)، ثم ألحقهما بجزء ثالث هو رواية (الزهايمر). كانت الرواية الأولى الأفضل والأجمل، لكنه - كما حكي لي شخصياً - نفد رغبة ابنته التي اخبرته بأن المرأة التي يحبها البطل ظلت في الخلفية دون أن تأخذ حقها في الرواية؛ فكتب الجزء الثاني؛ ليضع المرأة في الضوء. أما الجزء الثالث فمن الواضح أنه كُتب لدعم جمعية الزهايمر في حملات التوعية، فكرر فيها البطل واسمه وقصته وفضاءه المكاني والزماني، مع تغيير طفيف في وضعه المرضي.
فعل الحكي هو فعل سخاء حُرّ، والقصة هدية مقدمة من مؤلفها إلى المتلقين مع دعوة صادقة للحضور والتفاعل، الحكي فعل سخاء لا ينتظر في المقابل سوى فعل من طبيعته السخية نفسها: الانسجام والعطاء الحُرّ والمشاركة التي تعني الاشتراك في التملك.
جدة
lamiabaeshen@gmail.com