قريباً سأرسم وصول الأحرار إلى القصر المحتل من قبل عائلة ليست من البشر، وسأبيع لوحاتي وسأكنس باريس وأبيع ثيابي، وأتبرع بكل ما أجنيه من كل ذلك إلى الثورة.. حتى النصر، هذه العبارات كانت عناوين لحوار مع الفنان خالد الخاني لـ(صحيفة نيوز سنتر) كلمات لا يقولها إلا من يثق تماما أن النصر قريب لبلاده سوريا.
جذبتني إليه حلقة تلفزيونية لا أتذكر من أي قناة بثت، فاللقاء وما تضمنه من فكر وذكريات ومواقف وإبداع أهم من مصدره.. جاء في حديثه الكثير من الإشارات والتلميحات، وأخرى مباشرة.. كانت تعبيرات وجه خالد أكثر تأثيرا على المشاهد من العبارة أو الجملة، فنان لامست فرشاته دماء شهداء الثورة السورية.. ظلما وطغيانا.. منها ما أبقاه في مختزله البصري والذهني من مجزرة حماة 1982م، ومنها ما يعيشه يوميا روحا وقلبا وقالبا مع كل مجزرة، على مدى ما يقارب العامين في ثورة شعب سوريا الحالية.
دفعني ذلك اللقاء إلى البحث أكثر عن تاريخ هذا الفنان فوجدت سيلا من المعلومات.. حوارات صحفية، وتغطيات لمعارضه، وتصريحات وتعليقات، ومداخلات تلفزيونية، مزج فيها السياسة بالفن، جاعلا من إبداعه سبيلا لدعم ثورة وطنه سوريا..
الفنان التشكيلي خالد الخاني من مواليد 1975م في حماة، أحد شهود العيان لمجزرة حماة 1982م التي ارتكبها النظام في عهد الأسد الأب، على خلفية صراعه مع الإسلاميين في ذلك الوقت، ولم ينس الموقف المدمي للمآقي، عندما دخل إلى الصف الثاني لذي يتعلم فيه في المرحلة الابتدائية شعر لحظتها أن هناك أمرا ما ليكتشف أن المعلم الذي بالصف، هو المعلم الوحيد الباقي من بين بقية المعلمين الذين قتلوا، وأن كل من بالصف من التلامذة أصبحوا أيتاما، إلا من طالب واحد أنجا الله والده من المجزرة، ولم تتوقف تلك الذكريات القاسية.فقد شهد على ما تم من تحويل ساحة الجامع الكبير إلى ملعب لكرة قدم، وعلى قمع كل من يقوم بأداء الصلاة، حيث كان أهالي خالد وأترابه يوصونهم إذا سئلوا إن كانوا يصلون بأن تكون الإجابة بالنفي، مشاعر فياضة.. وألم لا ينفك من عقل ووجدان هذا المبدع على مر السنين، لم تغيره الأماكن والعلاقات الاجتماعية والظروف المعيشية التي لا تخفى على من جرب غربة الأوطان والأهل.
في أي بلد يضع قدمه فيها، هروبا نحو انعتاق يرسمه الأمل لمستقبل آت لا محالة، ومع أنه وكما أشار في أحد الحوارات، لم تكن مشاعره في طفولته ناضجة تجاه الأحداث، بقدر ما كانت مزيجاً من الألم والخيبة والإحساس بالظلم والقهر إلا أنها حفرت في ذاكرته.
آلام وجروح حملها كل من في حلب على مدى ثلاثين عاما، لتعود المطالبة بالحرية من جديد، ولتبدأ معها وبسببها رحلة الاغتراب نحو باريس، هرباً من النظام وأجهزة مخابراته، رحلة قصد منها البحث عن موقع آخر للمشاركة مع الثوار، نحو أعين العالم من خلال إبداعه، ومحاكاته وتبيانه للحال التي صارت عليها سوريا، وليسطر للعالم رسائل بصرية لا تقل عن الكلمات التي تصاغ بها الخطب التي تلقى في المحافل والمناسبات السياسية، يقول الفنان خالد الخاني (لقد غسلت الثورة ما في دواخلنا من ألم، مشيرا إلى أن حماة الآن تتداوى بتظاهراتها من جروح الماضي) ويقول (صرت أصدّق لوحاتي أكثر، وأصبحت هي تصدقني أيضاً، لأن ما كان في داخلي من قناعات يترسخ الآن).
كان معرضه الأول عام 1999م كالقشة التي قصمت ظهر البعير، لم يستطع خلال إعداده للمعرض أن يهرب مما اختزله من مآسٍ أو أن يجامل، فقدم لوحات تسرد وتعيد وتكشف واقع النظام الديكتاتوري الممارس في وطنه سوريا، تضمنت تلك اللوحات رموزا ومفردات بصرية، تمثلت في رسم لقطعان وأشخاص غائبي الملامح، معانٍ يراها الآخر نوعا من التلميح والإثارة، وكثيرا ما يرسم الشخوص بلا عيون، عودا إلى تلك الصورة التي انطبعت في ذاكرته من أبيه طبيب العيون في حماة، الذي قدم روحه فداء لمدينته حماة الأشد وقعا في نفسه... فقد تحمل والده التعذيب قبل قتله، كما يقول الابن الفنان خالد، وقلعوا إحدى عينيه وهو حي ثم قتلوه ومثلوا بجثته أشد تمثيل.. ودفن بلا عيون. قال عنها (إنه لا يستطيع رسم العيون، فثمة شيء في داخله يمنعنه عنها دائماً».
استمرار رغم الرقابة والتضييق
استدعي بعد المعرض من قبل فرع أمن الدولة، لمعرفة ما يقصده من تلك اللوحات والتصريحات لكنه واصل طريقه الذي يعبر عن مبدأ لا يتغير، من خلال عدد من المعارض، طرح فيها رأيه ومعالجته للفكرة التي تبناها في معرضه الأول بشجاعة، بشكل وأسلوب أكثر تاثيرا، من خلال السخرية والتهكم بما يدور حوله ويتم من ديكتاتورية النظام.
من أقواله
استقينا بعضا مما جاء في حواراته ولقاءاته.. إذ يقول:
لا أعرف ماذا أصابني اليوم...؟
عشت لأروي لكم طفولتي بمجزرة حماة 1982
ما عدت أريد التواري وسوف أذهب إلى مرسمي، وإلى كل التظاهرات.
لم أعد أستطيع أن أخفي هويتي أنا الفنان الذي تحول إلى ثائر.
أقسم بالله أنني لست حاقداً أو طالباً للثأر ولكني مع القصاص العادل.
تحولي هذا ليس له علاقة بذاكرتي البعيدة في حماة عن مقتل أبي ومقتل مدينة طفولتي واغتصاب نسائنا وسجننا وقصفنا وقهرنا وتهجير من بقي منا إلى الريف.
حزني الآن له علاقة بمشاهداتي اليومية لما يحصل من حولي. نتظاهر فيطلقون علينا الرصاص، نشيع فيمطرونا بالرصاص، نعود لنشيع يردون بنفس الطريقة. وهكذا. نجلس في بيوتنا، فيكسرون الأبواب ليعتقلوننا ويخيفون أمهاتنا.. أخبروني ماذا أفعل. لا أعرف ماذا أصابني اليوم...؟ تذكرت اليوم، أكثر من أي يوم، تذكرت أبي.
***
بطاقة تعريف
1991- درس الفن في مركز سهيل الأحدب للفنون التشكيلية (حماة).
1998- تخرج من كلية الفنون الجميلة قسم التصوير الزيتي (دمشق).
1998- عضو في نقابة الفنون الجميلة (دمشق).
2000- تخرج من كلية الفنون الجميلة (دراسات عليا - تصوير زيتي) (دمشق).
تعرض أعماله بشكل دائم في كل من:
المتحف الوطني (دمشق - سوريا)
متحف المجلس الوطني للثقافة والفنون (الكويت)
المتحف الوطني الأردني
بلدية بيشيليا إيطاليا
متحف الشيخ فيصل بن آل ثاني (قطر)
متحف تونس الوطني
وكثير من البلدان (سورية - لبنان - الأردن - مصر - السعودية - الكويت - البحرين - الإمارات العربية المتحدة - تونس - إسبانيا - فرنسا - هولندا - سويسرا - ألمانيا - إيطاليا - الولايات المتحدة الأميركية - السويد- المكسيك)
monif@hotmail.com