ولمّا تراءتْ عند مَروٍ منيتي
وحُلَّ بها جسمي، وحانتْ وفاتيا
أقول لأصحابي ارفعوني فإنّه
يَقَرُّ بعينيْ أنْ (سُهَيْلٌا) بَدا لِيا
فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا
برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا
أقيما عليَّ اليوم أو بعضَ ليلةٍ
ولا تُعجلاني قد تَبيَّن ما بيا
وقوما إذا ما استلَّ روحي فهيِّئا
لِيَ السِّدْرَ والأكفانَ ثم ابكيا ليا
وخُطَّا بأطراف الأسنّة مضجَعي
ورُدّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيا
ولا تحسداني باركَ اللهُ فيكما
من الأرض ذات العرض أن تُوسِعا ليا
خذاني فجرّاني بثوبي إليكما
فقد كنتُ قبل اليوم صَعْباً قِياديا
كان الحديث في الجزء الأول يعايش نفثات شاعرنا المحزون مالكِ بنِ الريب الذي أحس بدنو أجله واقتراب وفاته، ورأينا في ذلك المشهد كيف كان إحساسه وإحساس ابنته ووالديه بقرب وفاته ورحيله عن هذه الدنيا، وعرفنا أثناء ذلك مَن هم أكثر الناس حزناً وأكبرهم مصيبة جرَّاء هذا الرحيل المر حين كشف لنا الشاعر عن الذين سيبكون عليه يوم نعيه ولحظة وفاته، وفي هذا المشهد يقترب شاعرنا الحزين من تفاصيل مشهد الوفاة، ويطلعنا عن قرب على اللحظات الأخيرة التي سبقت موته، ويكشف لنا عن بعض وصاياه إلى أصحابه الذين كانوا معه أثناء احتضاره.
لقد شعر شاعرنا التائب بقرب منيته التي بدأت تتراءى له حين حط الجيش رحاله في بلدة (مرو)، وشعر في تلك اللحظة وذلك المكان أنَّ وفاته قد حانت، وأنَّ روحه تتأهب لفراق جسمه لتتركه جسداً بلا حراك، وبسبب ذلك الشعور اليقيني بقرب هذه المصيبة نراه يعقد العزم على استغلال ما بقي له من هذه الحياة بتوجيه بعض الوصايا الصغيرة والأمنيات الأخيرة التي يتمنى أن يحققها له أصحابه الذين يشهدون هذا الموقف المأساوي ويرون ذلك المشهد الحزين.
لقد كانت أولى هذه الأمنيات أن يحمله أصحابه لكي يتطلَّع في لَهفة إلى السماء صوب النجم اليماني سهيل ليذكره بِمرابع الصبا في وطنه وهو في اتجاه اليمن في مشهد مؤثر حزين، ولك أن تتخيَّل صاحِبَي شاعرنا المنكوب وهما يرفعانه عن الأرض وهو في لَحظات الاحتضار لكي يستطيع أن يرى نَجماً في السماء لعلَّه يذكره بوطنه وصباه وتلك الذكريات الجميلة التي تَمرُّ أمام عينيه سريعا وهو يستعدُّ للفظ أنفاسه الأخيرة.
ثم يوجِّه الشاعر خطابه إلى صاحبيه اللذين رافقاه رحلته الأخيرة ليطلب منهما أمنيته الثانية، مُذكِّراً إياهم أنه يُحسُّ بدنو أجله وقرب وفاته، وهي أن ينزلا برابية ليقيم فيها ما بقي له من حياة في هذه الدنيا الفانية، كما يطلب منهما ألا يستعجلا بالذهاب عنه ويتركانه وحيدا في هذه الرابية قبل أن يَموت، بل يودُّ منهما أن يبقيا عنده حتى تفيض روحه إلى بارئها، فإنَّ الوقت قد حان والساعة قد اقتربت، وما هي إلا لَحظاتٌ معدودةٌ حتى يصبح في عداد الراحلين، لذا فهو لن يؤخِّرهُما كثيراً عن المضي في مسيرهِما.
ويتمنى الشاعر من صاحبيه أن يقوما بالواجب حين توافيه المنية، فيطلب منهما تَهيئة السدر والأكفان لتغسيله وتكفينه، وقبل أن ينزلاه في لَحده يطلب منهما البكاء على رحيله والنحيب لوفاته لعله يُحسُّ وهو في قبره أنَّ هناك فعلاً مَنْ أسِف على فراقه ونثر أدمعه على ابتعاده، فلعلَّ من شأن ذلك أن يُهوِّن من وطأة مصيبته، ويُخفِّف من رهبة شعوره.
ويستمرُّ شاعرنا المحتضر في استغلال كلِّ لَحظةٍ بقيت له في الحياة ليقول فيها ما يودُّ أن يقوله لصاحبيه اللذين ستكون صورتُهما آخر صورةٍ ستبقى بين عينيَّ الشاعر وهو على مشارف ولوج عتبة الحياة الأخروية؛ ولذلك هو يطلب منهما أن يَحفرا له القبر بطريقةٍ استثنائية، وذلك بأن يَخُطَّاه بأطراف الأسنة والرماح؛ تكريماً لبطولته، وتشريفاً لشجاعته، فهذه الأسنَّة هي التي حاز بِها شرف البطولة في ميادين العزة حين كان يسقيها بدماء الأبطال ويغرسها في قلوب الأعداء، وها هي في هذه اللحظة تكتب الفصل الأخير من قصته، وترسم قبره الذي سيضطجع فيه بعد حياةٍ حافلةٍ بالعزة والكرامة، ولَحظاتٍ مليئةٍ بالشرف والبطولة.
كما أنَّ شاعرنا المحتضر لا ينسى توصية صاحبيه بأن يغطيا عينيه حين تغمضان إلى الأبد، وذلك بالزيادة التي ستتبقى من أكفانه التي تلفُّ جسمه في مشهدٍ حزينٍ مؤثِّر، كما يطلب منهما في لَحظاته الأخيرة ألا يبخلا عليه بقبرٍ فسيحٍ متسعٍ وهو يُدفن في هذه الصحراء الواسعة التي لا تزحُمُها القبور، وهي طلباتٌ ووصايا تبدو للوهلة الأولى بأنها غريبةٌ عجيبة، لكننا إذا تذكَّرنا أنَّ شاعرنا في موقف انتظار ومشهد احتضار تزول عنها كلُّ تلك الغرابة وذلك العجب.
وفي البيت الأخير من هذا المشهد الحزين يصف الشاعر حال النفس الإنسانية من خلال وضع نفسه أنموذجا لَها، وكيف أنَّ الموت إذا نزل بالإنسان فإنه يسلب منه كلَّ قوته، ويهزم كلَّ جبروتٍ في نفسه، ويُصيِّره إلى جسدٍ من دون روح، تتقاذفه الأيدي بالتغسيل والحمل وال دفن، ولذلك فالشاعر يُسلِّم بِهذه الحقيقة المرة الصعبة، ويطلب من صاحبيه أن يَجرَّانه بثوبه كيفما أرادا، وإلى حيث شاءا، فهو لا يَملك حولاً ولا قوة، لكنه يتذكَّر حياةً سابقةً كان فيها من الصعب أن يُقاد، ومن العسير أن يُوجَّه، وهو مشهدٌ مُؤثِّرٌ يصف الحال التي كان عليها والحال التي هو فيها، ويُبيِّن مدى التناقض بين الحالين في تعبيرٍ ساخرٍ وصورةٍ مؤلِمةٍ حزينة.
هذه هي اللحظات الأخيرة من مشاهد وفاة شاعرنا المحزون مالك بن الريب.. وهذه هي وصاياه الأخيرة لصاحبيه اللذين ظلا بجانبه حتى فارق الحياة.. وهذه هي أحرفه وأبياته التي نعى بها نفسه ورسم فيها نهايته.. وهي صور ومشاهد لا يُمكن أن تصدر إلا من شاعرٍ رأى الموت بأمِّ عينيه.. وأحسَّ بلحظات احتضاره.. وشعر أنه يقف على العتبة الأخيرة من عتبات هذه الدنيا.. فأبدع لنا هذا النص الاستثنائي المتألق..
ولم يبقَ له سوى عِدَّة رسائلَ أراد أن يرسلها إلى بعض أقاربه وأحبائه قبل أن يغادر دنيانا الفانية.. وهي الرسائل التي سيحملها لنا المشهد القادم من هذه المرثية الرائعة.
Omar1401@gmail.com
- الرياض