Culture Magazine Thursday  20/12/2012 G Issue 390
فضاءات
الخميس 7 ,صفر 1434   العدد  390
 
الإصلاح.. سلامة المشروع وعورته
ياسر حجازي

 

(أ)

لعلّ من منافع الربيع العربي إعادته (مسائل التغيير/الإصلاح) إلى طاولة البحث، تأكيداً على أنّ مشاريع الإصلاح في العقد الأخير لم تكن فاعلة وذات إنجاز، فلا شكّ أنّ الوعي الوطنيّ مُطالَبٌ بإعادة فتح الحوار حول: (مشروع الإصلاح الديني) في السعودية بعد تضخّم المؤشرات الواقعيّة: أنّنا وقعنا أسرى خداع التغيير، حينما كنّا نحتفي بالتحوّلات وإذ بها دون مفاهيم التغيير في الإصلاح والاختلاف.

وتبقى أهمية الربيع مشروطة على «الإثمار»: وهو لا يكون دون تأهيل الإصلاح وتمكين تنفيذه في الواقع، وهو التمكين الذي حُرِمَ العربيّ منه في مفاصل تاريخيّة عديدة؛ لذلك فإنّ اعتبارات التغيير تسقطُ دون إصلاح واختلاف، فما يمكن تأويله من وقائع وأحداث في المنطقة العربيّة محصور في نطاق (التحوّلات: المتمثّلة في التبدّل الشكلاني) وتبقى أيلولة أحوالها عصيّة على الدخول في نطاق (التغييرات: المتمثّلة في تبدّل المضمون)؛ لذلك فإنّ التفريق بين (التحوّل والتغيير) وضبط معاييرهما ضرورة لفهم الواقع ومقارنته بالمشاريع الإصلاحيّة المتعثّرة، كيما نقع في التيه مرّة أخرى، إن خلصت نيّة الإصلاح.

والأصول في اللغة لا تردّنا عن هذا التفريق الذي يُفضي بنا إلى رؤية تفاصيل الواقع، وقياس المدى المطلوب لتحقيق غاية الإصلاح؛ فالتحوّل: يدلّ على حركةٍ في دُورٍ، كما يدل على القوّة والحيلة، وهو يوحي (بالتحايل) أنّه تغيّر لكنّه في حقيقة الأمر تحوّلَ في شكله وبقي مضمونه، أمّا (غير) فلها أصلان: يدلُّ أحدُهما على صلاحٍ وإصلاحٍ ومنفعة، والآخر على اختلافِ شيئين. وكلا الأصلين الإصلاح والاختلاف يدخلان في مفاهيم التغيير المعاصرة؛ هكذا يكون مفهوم التغيير أعم وأشمل لأنّه يحتوي على الإصلاح والاختلاف معاً، بينما يبقى التحوّل ذا طموح لا يرقى إلى التغيير دلالةً ومنجزاً. وهذا المنطق يستوجب أن يعتمد رصدنا للتغييرات الداخليّة على أسس الإصلاح والاختلاف في المضامين وليس في الأشكال، وإلاّ استمرّ بقاؤنا في التيه الإصلاحي وشرك حيلة التحوّل على اعتباره تغييراً.

(ب)

بعد عقدٍ من الزمن الإصلاحيّ –حين طفحت ضرورة الإصلاح الديني في المنطقة بعد أحداث أيلول الأمريكي- ها نحن اليوم (لم نتغيّر)، وضرورة الإصلاح تعود ثانيّة وتهبّ برياح عاتية حاملة هموم الحاضر والمستقبل، ممَّا يستوجب تضمين الخطط المستقبليّة الإصلاحيّة قراءة واعية لأخطاء العقد الماضي، فليس يسيراً الاستسلام إلى سلامة ذاك المشروع بينما ما زلنا نشهد تسلّلَ مقاتلين سعودييّن إلى العراق، سوريّا، وغيرها من مناطق النزاع والأزمات، ولست تدري تحت أيّ تبريرات نفسيّة دينيّة يهاجر المرء من مكّة إلى الشيشان ويتحمّل في أعناقه وزر دماءٍ لم تخرجه من دياره. فإلى أيّ مدى أثّر مشروع الإصلاح في الخطاب الديني بينما يزداد العنف ولا شيء يحدّه، والتكفير يعود من أبواب عديدة، ومحاكم للتفتيش تنصب في الواقع الفضائي، وفي المقابل يقف الخطاب الثقافي بين عجزٍ في الفعل، وبين ردّة جاهليّة في ردّة الفعل المتطرّفة بإحالة تعثّر الراهن على الطرف الآخر بإقصائيّة تُضرّ بلُحمة الوطن وإنجاح أيّ مشروع إصلاح وطني.

(ج)

لا يمكن لهذا المقال أن يحضر مسبّبات تعثّر المشروع الإصلاحي الخارجيّة والداخليّة، لكنّنا نحاول تسليط الضوء على مجموعة نظنّها في غاية الأهميّة: فأمّا (الخارجيّة): فتمثّلت بالعنصريّة الغربيّة لكلّ ما هو عربيّ ومُسْلم، ونظرية صراع الحضارات التي تبنّاها اليمين الغربي ممّا أضعف المصلحين العرب يميناً ويساراً وأدخلهم في مأزقٍ بين أفكارهم المستوردة من بلاد تمارس عنصريّة وتعيد الاحتلال وبين ادّعاءتهم في مشاريع الإصلاح. وأمّا الأسباب (الداخلية): فتمثّل أخطرها بإحالة معالجة المأزوميّة إلى دعاة الخطاب أنفسهم وتفويضهم بحلّ أزمة يتحمّلون وزراً كبيراً في نشوئها وتأثيرها؛ وفي الوقت نفسه تورّط العديد من معارضي الخطاب الديني بالتحالف مع اليمين الغربي في فترة ما بعد أحداث أيلول، وهم ضالعون بما آلت إليه العواقب من وصول الإسلام السياسي إلى مراكز صناعة القرار السياسي، والتهديدات والمخاطر التي تتعرّض لها دول الخليج أيضاً.

ولطالما نحن: (1) ندخل الإصلاح بالأدوات عينها التي خلقت الفساد: (غربة الجديد الوارد إلى الوطن، وغرابة القديم الشارد عن الزمن)، (2) ونخلط بين تحوّل الأشكال وتغيّر المضامين، (3) ونتغاضى عن الأسئلة الضروريّة: (ماذا نريد من الإصلاح؟ كيف نحقّقه؟ ومتى يتمّ إنجازه؟)، فإنّ تعثّر الإصلاح حينذاك لا يكون مفاجأة أو أنّه خارج محتملات الواقع، وهذه المسبّبات في فشل مشروع العقد الماضي، لا بدّ من الالتفات لها في أيّ مشروع إصلاحيّ نتوخّى له سلامة الإنجاز.

(د)

استيرادُ التمدّن لا يُفضِي إلى التمدّن، واستيراد منجزات الحضارة الغربيّة ومصطلحاتها لا يعني الاشتراك في صناعتها: فلا نحن في التغريب ولا نحن في واقعها التنفيذي؛ فكما وقع الاستهلاك على منتجات الصناعة والتكنولوجيا كذلك وقع على المصطلحات؛ وأقصى طموح الاستهلاك الاصطلاحي أن يحوّل المستهلك من شكلٍ إلى آخر دون الالتفاف للمضمون، وهذا التحوّل عقيمٌ لا يُفضي إلى تغيير، لأنّ التغيير يُفضي إلى إنتاج، وهو ما يستلزم الخوض في المضامين.

وكلا الاستيراد على دلالة أسلمة المصطلح، والتجديد على دلالة عصرنة مخرجات المرجع، يحتاجان إلى التأهيل لمعالجة إشكاليّة: (غربة الجديد وغرابة القديم)، فلا هذا المستورد المناسب لظروف الزمن يحظى بألفة أكثريّة الوطن، ولا هذا الذي تألفه الأكثريّة ملائم لموجبات الزمن.. من هنا لا يتمّ الإصلاح دون رعاية الدولة له؛ فالمسألة أنّك لا تستطيع أن تغيّر العقل الاجتماعي إذا لم يسبق محاولاتك تشريع سياسي ينقلها من حيز المحرّم اجتماعيّا إلى المشرّع اجتماعيّاً، فحينما نقول: (الناس على دين ملوكهم) فإنّما نعني أنّ مخاطبة الدولة القادرة على التغيير هو الأساس في أيّ عملية إصلاح يريد السياثقافي أن يكون مشتركاً فيها، لأنّ الدولة وحدها قادرة على إنجاز منطق الإنجاز السياسي في تأهيل الإصلاح وتمكين تنفيذه.

(ه)

إنَّ التغييرات الناجمة عن الإصلاح السياسي الديني عبر التأهيل تختصر مراحل عديدة، لا يمكن لأيّ تقلّبات اضطراريّة أن تحقّقها أو أن تكون على درجة الجودة عينها، وفوق ذلك التكلفة الإنسانيّة في الأرواح والممتلكات؛ فالأمر ليس جهداً منوطاً بعلاقة المثقّفين والشعب عبر وسائل الإعلام المرئي والمكتوب، بل هو تأهيل يعقبه إصلاح لا يتمّ إلاّ عبر قرارات تُؤخذ من أعلى. ولعلّ الحال يبقى على ما هو عليه، إن لم تقم النخب السياسية بإدخال هذه الأعباء ضمن أجندتها في مفاوضتها مع السلطة على ممكن الإصلاح. هكذا لا يُنجز الإصلاح في طاولات الحوار الوطني بين المختلفين ما لم تُؤسّس له السلطة التشريعيّة بما يناسب حصانته من تشريعات تلزمه وتصونه من سدنة الفضيلة/دعاة (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين). والمعضلة أنّك لا تستطيع مناقشة التشريعات دون مراجعات لمسائل فقهيّة مؤثّرة في التشريعات، ولذلك يتداخل الإصلاح السياسي بالديني ويهيمن عليه وإلاّ فقد الإصلاح قوّة تنفيذه. وحين نُعلي من شأن الإصلاحات السياسيّة على إصلاح واقع الفكر الديني فمرَدُّه ضرورة رعاية الدولة للإصلاح السياسي الديني، ورعاية مناقشة المدوّنة الفقهيّة الأحادية للأصول المصونة من قبل سدنة الفضيلة، على أن تُولى الأهميّة في المراجعات إلى التشريعات محلّ الإشكال التي تعيق (التغيير) بالاستناد إلى ضيق المدوّنة الفقهيّة بينما سعة المدوّنة التاريخيّة الفقهيّة تجوّز لمشروع الإصلاح والتغيير إذا دعت الحاجة السياسيّة لشرعنة واقعها الإصلاحيّ بالاستناد إليها.

إنّ الإنجاز لا يكون مصادفة دون تخطيط مسبق له، وعلى قدر ما تصبو إليه يمكن الوصول؛ إذّاك فإن على رفع سقف طموحات أيّ مشروع إصلاحيّ تجعله لا يتوقّف عند المنجزات الصوريّة السهلة التي يظهرها التحوّل، بل المضيّ قدماً بجرأة تاريخيّة إصلاحيّة لمصلحة التغيّر الذي يتضمّن مفهومي: (إصلاح المضمون واختلافه) كي لا نقع في فخّ التيه الإصلاحي مرّة أخرى، ونضيّع عقداً بعد آخر.

Yaser.hejazi@gmail.com - جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة