(أمارتيا سن) مفكر هندي بنغالي في الثمانين من عمره، قضاه كله في مجال البحث الاقتصادي والأخلاقي ولأجل إنجازاته وتاريخه الحافل في التعامل مع قضايا الفقر وبحوثه في مجال المشكلات الغذائية بشكل عام حاز على جوائز عالمية من منظمات مختلفة كان أهمها جائزة نوبل في المجال الاقتصادي.
درّس في كل الجامعات المهمة عالمياً من هارفارد وكامبردج حتى ييل وكولومبيا وجامعات أخرى كثيرة، ولا يزال يقدم إنتاجاً فلسفياً وثقافياً واقتصادياً رغم سنه المتقدمة.
(أمارتيا سن) لم يكن سياسياً بالمعنى الحرفي للكلمة فهو لم يقدم نفسه كناشط سياسي، ولم يشتغل في المجالات السياسية المباشرة ولم يدخل الحراك والعراك السياسي.. مع أن بعض أعماله ونشاطاته ومشاريعه كان لها أثر سياسي ما، وحازت على تقديرات وكان لها وجود عام.
رغم كل هذا ورغم بعد (سن) عن السياسة.. واهتامامه البحثي الإبداعي بقضية التنمية ومكافحة الفقر ومعالجة الموضوعات الاقتصادية، إلا أنه كتب عدة بحوث تعتبر ذات دلالة عالية لأنها صدرت من شخص لا يحترف العمل السياسي.. ولكنه يقرأ السياسة من وجهة نظر تنموية واقتصادية خالصة.
كتب (أمارتيا سن) وهو الاقتصادي التنموي الحائز على جوائز عالمية في هذا التخصص عن التنمية.. وقدم بحثاً مهما أسماه «التنمية كحرية» بالإنجليزي (Development as Freedom) تحدث فيه عن أن أهم طريقة لمحاربة الفقر هي طريق الحرية، وأن فتح قدرات الإنسان وطاقاته وإتاحة كل السبل المشروعة أمامه هي أهم وأفضل طريقة لتقديم التنمية ومحاربة الفقر وأقصر خط للتقدم والازدهار الاقتصادي.
وبهذا البحث عن قضية التنمية كفعل حر ابتداءً.. قدم نموذج الاتحاد السوفيتي السابق كمجال دراسة، وانتهى إلى أن أهم طريقة للتنمية المستدامة هو سلوك سبيل الحرية بمجالاتها المختلفة، فالأثر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على الفعل الحر هو أهم طريقة للحفاظ على الاستقرار التنموي في أي بلد.
وحينما تحدث (سن) عن مفاهيم الديمقراطية والتحرر في العالم.. أشار بوضوح إلى أن المنظرين والفلاسفة في القرن التاسع عشر كانوا يبحثون عادةً عن كل بلد بانفراد، ويدرسون ما إذا كان هذا البلد أو ذاك مناسباً للحرية والديمقراطية أم لا، لكنه أردف بأن هذا جدل تجاوزه العالم منذ قرنين أو حقّ له أن يتجاوزه، فالجدل الآن الحقيقي والواقعي ليس (هل الديمقراطية مناسبة لهذا البلد أو ذاك؟) لأنهم اكتشفوا أن السؤال نفسه كان خاطئاً.. وأن الموضوع المفترض بحثه هو الانطلاق من مقدمة نظرية مسلمة بأن أي بلد لن تكون مناسبة أصلاً إلا بديمقراطية شعبية تتحقق فيها الرفاهية والتنمية والحرية بشكل تبقى فيه آليات التقدم والتنمية بيد المؤسسات الدائمة، وتحت رقابة القوى الشعبية التي تحفظ الاستقرار التنموي.
هذا الحديث حول قضايا التنمية وخطورة عزلها عن قيمة الحرية والدور الشعبي دائماً ما يواجه بافترض خاطئ ابتداءً مفاده أن التنمية هي «عمل اقتصادي صرف».. بينما التنمية هي قيمة ذات مجالات وأبعاد متعددة من تنمية اقتصادية وسياسية واجتماعية وغيرها كلها ترتبط بالعمل المستدام الذي يربط المؤسسات بشكل حر وفاعل.
قد تنجح بعض ظواهر التنمية بشكل جزئي موضوعاً أو بشكل مؤقت عمراً في بلد لا يحمل القيم المؤسساتية المدنية القائمة على الرقابة الشعبية، ولكنها لن تكون تنمية بالمعنى العام لها.. ولن تكون مستدامة.. فهي دائماً رحلة البحث عن التنمية المستدامة.
ما قيمة ظواهر «تنموية» تحيا وتزدهر وتتكاثر مشاريعها ثم تنتهي في لحظة قرف شخصي، أو لحظة تغير غير متوقع في الرأي، أو حتى تغير أشخاصها المتبنين لقضاياها ومشاريعها؟ ما قيمة هذه الظواهر «التنموية» إذا كانت تحيا بإرادة شخصية منفردة تموت بموتها؟ وما قيمة هذه الظواهر والمشاريع إذا كانت مرتبطة بالفعل الشخصي والأمر الفردي فهي تضعف بضعفه وتحيا لحياته وتمرض لمرضه؟ بينما التنمية المستدامة التي تستحضر قيمة التنمية السياسية في ضمن سلتها التنموية تقوم على الإرادة الشعبية التي تحفظ على المدى البعيد قيمها ومشاريعها وأشغالها وأهدافها، ولا تضعف لضعف شخص ولا تموت لموته.. فهي أكثر أملاً وأرجأ نجاحاً وتوفيقاً.. وأطول عمراً.. فالشعوب هي طويلة العمر.. والتنمية الشعبية هي التنمية المستدامة التي لا تستبعد التنمية السياسية وقيمة الحرية في مفاصلها.. والذين يقفون أمام حقوق الناس وحرياتهم فهم الذين يعطلون التنمية.. ويعيقون الاستقرار التنموي.
abdalodah@gmail.com
- الولايات المتحدة